الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 262 ] فصل

في وصف وجوه من البلاغة

ذكر بعض أهل الأدب والكلام : أن البلاغة على عشرة أقسام :

الإيجاز ، والتشبيه ، والاستعارة ، والتلاؤم ، والفواصل ، والتجانس ، والتصريف ، والتضمين ، والمبالغة ، وحسن البيان .

فأما " الإيجاز " فإنما يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى ، فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة .

وذلك ينقسم إلى حذف ، وقصر :

فالحذف : الإسقاط للتخفيف ، كقوله : واسأل القرية . وقوله : طاعة وقول معروف .

وحذف الجواب كقوله : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . كأنه قيل : لكان هذا القرآن .

والحذف أبلغ من الذكر ؛ لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب .

[ ص: 263 ] والإيجاز بالقصر كقوله : ولكم في القصاص حياة .

وقوله : يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو .

وقوله : إنما بغيكم على أنفسكم .

وقوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .

والإطناب فيه بلاغة ، فأما التطويل ففيه عي .

* * *

وأما التشبيه ، فهو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في [ ص: 264 ] حس أو عقل ، كقوله : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .

وقوله : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف .

وقوله : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة .

وقوله : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس .

وقوله : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر .

[ ص: 265 ] وقوله : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان .

وقوله : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما .

وقوله : وجنة عرضها كعرض السماء والأرض .

وقوله : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا .

وقوله تعالى : فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث .

وقوله : كأنهم أعجاز نخل خاوية .

وقوله : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت [ ص: 266 ] بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت .

وقوله : وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام .

وقوله : خلق الإنسان من صلصال كالفخار . ونحو ذلك .

* * *

ومن ذلك : " باب الاستعارة " وذلك يباين " التشبيه " .

كقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا .

وكقوله : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين .

وكقوله : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية .

وقوله : ولما سكت عن موسى الغضب .

[ ص: 267 ] وكقوله : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة .

وقوله : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . فالدمغ والقذف مستعار .

وقوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار .

وقوله : وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم .

وقوله : فذو دعاء عريض .

وقوله : حتى تضع الحرب أوزارها .

وقوله : والصبح إذا تنفس .

وقوله : مستهم البأساء والضراء وزلزلوا .

[ ص: 268 ] وقوله : فنبذوه وراء ظهورهم .

وقوله : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا .

وقوله : حصيدا خامدين .

وقوله : ألم تر أنهم في كل واد يهيمون .

وقوله : وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .

وقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك .

وقوله : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر .

وقوله : فضربنا على آذانهم يريد : أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم .

[ ص: 269 ] وقوله : ولما سقط في أيديهم .

وهذا أوقع من اللفظ الظاهر ، وأبلغ من الكلام الموضوع له .

* * *

وأما " التلاؤم " ، فهو : تعديل الحروف في التأليف . وهو نقيض " التنافر " الذي هو كقول الشاعر :


وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر



قالوا : هو من شعر الجن ! وحروفه متنافرة ، لا يمكن إنشاده إلا بتتعتع فيه !

" والتلاؤم " على ضربين :

أحدهما في الطبقة الوسطى ، كقوله :


رمتني وستر الله بيني وبينها     عشية آرام الكناس رميم
رميم التي قالت لجارات بيتها :     ضمنت لكم أن لا يزال يهيم
ألا رب يوم لو رمتني رميتها     ولكن عهدي بالنضال قديم



[ ص: 270 ] قالوا : والمتلائم في الطبقة العليا : القرآن كله ، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا له من بعض ، كما أن بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض .

و " التلاؤم " : حسن الكلام في السمع ، وسهولته في اللفظ ، ووقع المعنى في القلب . وذلك كالخط الحسن والبيان الشافي ؛ والمتنافر كالخط القبيح ، فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان وصحة البرهان في أعلى الطبقات - ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع ، وبصيرا بجواهر الكلام ، كما يظهر له أعلى طبقة الشعر .

و " المتنافر " ، ذهب الخليل إلى أنه من بعد شديد ، أو قرب شديد ؛ فإذا بعد فهو كالطفر ، وإذا قرب جدا كان بمنزلة مشي المقيد . ويبين بقرب مخارج الحروف وتباعدها .

* * *

وأما " الفواصل " : فهي حروف متشاكلة في المقاطع ، يقع بها إفهام المعاني وفيها بلاغة . والأسجاع عيب ؛ لأن السجع يتبعه المعنى ، والفواصل تابعة [ ص: 271 ] للمعاني . والسجع كقول " مسيلمة " .

ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة ، كما قد تقع على حروف متقاربة ؛ ولا تحتمل القوافي ما تحتمل الفواصل ، لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة ؛ لأن الكلام يحسن فيها بمجانسة القوافي وإقامة الوزن .

وأما " التجانس " ، فهو : بيان أنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد .

وهو على وجهين : مزاوجة ، ومناسبة .

المزاوجة كقوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .

وقوله : ومكروا ومكر الله .

وكقول عمرو بن كلثوم :


ألا لا يجهلن أحد علينا     فنجهل فوق جهل الجاهلينا



[ ص: 272 ] * * *

وأما " المناسبة " ، فهي كقوله تعالى : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ، وقوله : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار .

* * *

وأما " التصريف " فهو : تصريف الكلام في المعاني ، كتصريفه في الدلالات المختلفة ؛ كتصريف " الملك " في معاني الصفات ، فصرف في معنى " مالك " و " ملك " و " ذي الملكوت " و " المليك " ، وفي معنى " التمليك " ، و " التملك " ، و " الإملاك " ؛ وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة ، كما كرر من قصة موسى في مواضع .

* * *

وأما " التضمين " فهو : حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه .

[ ص: 273 ] وذلك على وجهين :

تضمين توجبه البنية ، كقولنا : " معلوم " ، يوجب أنه لا بد من عالم .

وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به ، كالصفة بضارب ، على مضروب .

والتضمين كله إيجاز ، وذكر : أن التضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضا إيجاز .

وذكر : أن " بسم الله الرحمن الرحيم " من باب التضمين ؛ لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله - تبارك وتعالى - ، أو التبرك باسمه .

* * *

وأما " المبالغة " ، فهي : الدلالة على كثرة المعنى . وذلك على وجوه :

منها مبالغة في الصفة المبينة لذلك ، كقولك : " رحمان " عدل عن راحم " [ ص: 274 ] للمبالغة ، وكقوله " غفار " ، وكذلك فعال وفعول ، كقوله : " شكور " ، و " غفور " ، وفعيل ، كقوله : " رحيم " و " قدير " .

ومن ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة ، كقوله : خالق كل شيء وكقوله : فأتى الله بنيانهم من القواعد .

وكقوله : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط .

وكقوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .

وقد يدخل فيه الحذف الذي تقدم ذكره للمبالغة .

* * *

وأما " حسن البيان " فالبيان على أربعة أقسام : كلام ، وحال ، وإشارة ، وعلامة .

ويقع التفاضل في البيان ، ولذلك قال عز من قائل : الرحمن علم [ ص: 275 ] القرآن خلق الإنسان علمه البيان .

ونقيضه العي ، ومنه قيل : أعيا من باقل ، سئل عن ظبية في يده : بكم اشتراها ؟ فأراد أن يقول : بأحد عشر ، فأشار بيديه مادا أصابعه العشر ، ثم أدلع لسانه ، فأفلتت الظبية من يده ! !

* * *

ثم البيان على مراتب .

قلنا : قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى " البديع " في أول الكتاب ، مما مضت أمثلته في الشعر .

ومن الناس من زعم : أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في هذا الفصل .

واعلم أن الذي بيناه قبل هذا وذهبنا إليه هو سديد ، وهو أن هذه الأمور تنقسم :

فمنها ما يمكن الوقوع عليه ، والتعمل له ، ويدرك بالتعلم ؛ فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به .

وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات ، فذلك هو الذي يدل على إعجازه ؛ ونحن نضرب لك أمثلة ، لتقف على ما ذهبنا إليه .

وذكرنا في هذا الفصل عن هذا " القائل " أن التشبيه تعرف به البلاغة . وذلك مسلم ، ولكن إن قلنا : ما وقع من التشبيه في القرآن معجز - عرض علينا [ ص: 276 ] من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك ، وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر ، وقد تتبع في هذا ما لم يتتبع غيره ، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء .

وكذلك كثير من وجوه البلاغة ، قد بينا أن تعلمها يمكن ، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره .

فإن كان إنما يعني هذا " القائل " أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية ، ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض ، وينتهي منه إلى متصرفاته - : على أتم البلاغة وأبدع البراعة - فهذا مما لا نأباه ، بل نقول به .

وإنما ننكر أن يقول قائل : إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يصل به من الكلام ويفضي إليه ، مثل ما يقول : إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز ، وإن التشبيه معجز ، وإن التجنيس معجز ، والمطابقة بنفسها معجزة .

فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه ، فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها - فإني لا أدفع ذلك وأصححه ، ولكن لا أدعي إعجازها لموضع التشبيه .

وصاحب " المقالة " التي حكيناها ، أضاف ذلك إلى موضع التشبيه وما قرن به من الوجوه ، ومن تلك الوجوه ما قد بينا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان ، وذلك لا يختص بجنس من المبين دون جنس ، ولذلك قال : هذا بيان للناس وقال : تبيانا لكل شيء وقال : بلسان عربي مبين ، فكرر في مواضع - جل ذكره - أنه مبين .

فالقرآن أعلى منازل البيان ، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه ، وطرقه وأبوابه : من تعديل النظم وسلامته ، وحسنه وبهجته ، وحسن موقعه في السمع ، وسهولته على اللسان ، ووقوعه في النفس موقع القبول ، وتصوره تصور المشاهد ، [ ص: 277 ] وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف ، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة .

وإذا علا الكلام في نفسه ، كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ، ما يذهل ويبهج ، ويقلق ويؤنس ، ويطمع ويؤيس ، ويضحك ويبكي ، ويحزن ويفرح ، ويسكن ويزعج ، ويشجي ويطرب ، ويهز الأعطاف ، ويستميل نحوه الأسماع ، ويورث الأريحية والعزة ، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا ، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا .

وله مسالك في النفوس لطيفة ، ومداخل إلى القلوب دقيقة .

وبحسب ما يترتب في نظمه ، ويتنزل في موقعه ، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه - يكون عجيب تأثيراته ، وبديع مقتضياته .

وكذلك على حسب مصادره ، يتصور وجوه موارده .

وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه ، ويدل على مكان متكلمه ، وينبه على عظيم شأن أهله ، وعلى علو محله .

ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن محب ، كان أرق وأحسن ؛ وإذا صدر عن متعمل ، وحصل من متصنع - نادى على نفسه بالمداجاة ، وأخبر عن خبيئه في المراءاة ؟ !

وكذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع ، فيعلم وجه صدوره ، ويدل على كنهه وحقيقته .

وقد يصدر عن المتشبه ، ويخرج عن المتصنع ، فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه ، ويظهر من أمره خلاف ما يبديه .

وأنت تعرف لقول المتنبي :


فالخيل والليل والبيداء تعرفني     والحرب والضرب والقرطاس والقلم



[ ص: 278 ] من الوقع في القلب - لما تعلم أنه من أهل الشجاعة - ما لا تجده للبحتري في قوله :


وأنا الشجاع وقد بدا لك موقفي     بعقرقس والمشرفية شهدي



وتجد لابن المعتز في موقع شعره من القلب ، في الفخر وغيره ، ما لا تجده لغيره ، لأنه إذا قال :


إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا     وسارت ورائي هاشم ونزار
وعم السماء النقع حتى كأنه     دخان وأطراف الرماح شرار



وقال :


قد ترديت بالمكارم دهرا     وكفتني نفسي من الافتخار
أنا جيش إذا غزوت وحيدا     ووحيد في الجحفل الجرار



وقال :


أيها السائلي عن الحسب الأطـ     ـيب ما فوقه لخلق مزيد
نحن آل الرسول والعترة الحقـ     ـق وأهل القربى ، فماذا تريد ؟
ولنا ما أضاء صبح عليه     وأتته رايات ليل سود



وكما أنشدنا الحسن بن عبد الله ، قال : أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها :


أنا ابن الذي سادهم في الحيا     ة وسادهم بي تحت الثرى
وما لي في أحد مرغب     بلى في يرغب كل الورى
وأسهر للمجد والمكرمات     إذا اكتحلت أعين بالكرى



[ ص: 279 ] فانظر في القصيدة كلها ، ثم في جميع شعره ، تعلم أنه ملك الشعر ، وأنه يليق به من الفخر خاصة ، ثم مما يتبعه مما يتعاطاه - ما لا يليق بغيره ، بل ينفر عن سواه .

ولم أحب أن أكثر عليك ، فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه .

وكما ترى من قول أبي فراس الحمداني في نفسك إذا قال :


ولا أصبح الحي الخلوف بغارة     ولا الجيش ما لم تأته قبلي النذر
ويا رب دار لم تخفني منيعة     طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها     فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبت لها ما حازه الجيش كله     وأبت ولم يكشف لأبياتها ستر
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى     ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي في المال أبغي وفوره     إذا لم أفر وفري فلا وفر الوفر



والشيء إذا صدر من أهله ، وبدا من أصله ، وانتسب إلى ذويه - سلم في نفسه ، وبانت فخامته وشوهد أثر الاستحقاق فيه .

وإذا صدر من متكلف ، وبدا من متصنع - بان أثر الغربة عليه ، [ ص: 280 ] وظهرت مخايل الاستيحاش فيه ، وعرف شمائل التحير منه .

إنا نعرف في شعر أبي نواس أثر الشطارة ، وتمكن البطالة ، وموقع كلامه في وصف ما هو بسبيله من أمر العيارة ، ووصف الخمر والخمار ؛ كما نعرف موقع كلام ذي الرمة في وصف المهامه والبوادي والجمال والأنساع والأزمة .

وعيب أبي نواس التصرف في وصف الطلول والرباع والوحش ، ففكر في قوله :


دع الأطلال تسفيها الجنوب     وتبلي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضا     تخب به النجيبة والنجيب
بلاد نبتها عشر وطلح     وأكثر صيدها ضبع وذيب
ولا تأخذ عن الأعراب لهوا     ولا عيشا ، فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال     رقيق العيش عندهم غريب
إذا راب الحليب فبل عليه     ولا تحرج ، فما في ذاك حوب
فأطيب منه صافية شمول     يطوف بكأسها ساق أديب
كأن هديرها في الدن يحكي     قراة القس قابله الصليب
أعاذل أقصري عن طول لومي     فراجي توبتي عندي يخيب
تعيبين الذنوب ، وأي حر     من الفتيان ليس له ذنوب ؟ !



وقوله :


صفة الطلول بلاغة الفدم     فاجعل صفاتك لابنة الكرم



[ ص: 281 ] وسمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول : سمعت براكويه الزنجاني يقول :

أنشد بعض الشعراء هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى :


ودع هريرة إن الركب مرتحل     وهل تطيق وداعا أيها الرجل ؟



وكان وصف فيها الطلل ، قال براكويه : فقال لي هلال : فقلت بديها :


إذا سمعت فتى يبكي على طلل     من أهل زنجان ، فاعلم أنه طلل



* * *

وإنما ذكرت لك هذه الأمور ، لتعلم أن الشيء في معدنه أعز ، وإلى مظانه أحن ، وإلى أصله أنزع ، وبأسبابه أليق ؛ وهو يدل على ما صدر منه ، وينبه ما أنتج عنه ، ويكون قراره على موجب صورته ، وأنواره على حسب محله ؛ ولكل شيء حد ومذهب ، ولكل كلام سبيل ومنهج .

وقد ذكر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في كلام مسيلمة ما أخبرتك به ، فقال : إن هذا كلام لم يخرج من إل . فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية ورفعة الإلهية ، يتميز عما لم يكن كذلك .

* * *

ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان ، ولو لم يكن فيه إلا ما من به الله على خلقه بقوله : خلق الإنسان علمه البيان .

[ ص: 282 ] فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان وأهداه ، وأكمله وأعلاه ، وأبلغه وأسناه .

تأمل قوله تعالى : أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين في شدة التنبيه على تركهم الحق والإعراض عنه . وموضع امتنانه بالذكر والتحذير .

وقوله : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون وهذا بليغ في التحسير .

وقوله : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر ، معودين لمخالفة النهي والأمر .

وقوله : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين هو في نهاية المنع من الخلة إلا على التقوى .

وقوله : أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله . وهذا نهاية في التحذير من التفريط .

وقوله : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير هو النهاية في الوعيد والتهديد .

وقوله : وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من [ ص: 283 ] سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي نهاية في الوعيد .

وقوله : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون نهاية في الترغيب .

وقوله : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ؛ وكذلك قوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا نهاية في الحجاج .

وقوله : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات .

ولا وجه للتطويل ؛ فإن بيان الجميع في الرفعة وكبر المنزلة على سواء .

وقد ذكرنا من قبل : أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز ، وهو معجز من القرآن .

* * *

وما حكينا عن " صاحب الكلام " : من " المبالغة " في اللفظ - فليس ذلك بطريق الإعجاز ؛ لأن الوجوه التي ذكرها قد تتفق في كلام غيره ، وليس ذلك بمعجز ، بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى والصفة ، وجوه من اللفظ تثمر الإعجاز .

* * *

و " تضمين المعاني " أيضا قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها .

[ ص: 284 ] وأما " الفواصل " فقد بينا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز ، وكذلك قد بينا في المقاطع والمطالع نحو هذا ، وبينا في " تلاؤم " الكلام ما سبق : من صحة تعلق الإعجاز به .

والتصرف في " الاستعارة " البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز ، كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام ؛ لأن البلاغة في كل واحد من البابين تجري مجرى واحدا وتأخذ مأخذا مفردا .

* * *

وأما " الإيجاز والبسط " فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز ، كما يتعلق بالحقائق .

* * *

و " الاستعارة " و " البيان " في كل واحد منهما ما لا يضبط حده ، ولا يقدر قدره ، ولا يمكن التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم ، ولا يتطرق إلى غوره بالتسبب . وكل ما يمكن تعلمه ، ويتهيأ تلقنه ، ويمكن تحصيله ، ويستدرك أخذه - فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به .

ولذلك قلنا : إن " السجع " ما ليس يلتمس فيه الإعجاز ؛ لأن ذلك أمر محدود ، وسبيل مورود ، ومتى تدرب الإنسان به واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه .

وكذلك " التجنيس " و " التطبيق " متى أخذ أخذهما وطلب وجههما ، استوفى ما شاء ، ولم يتعذر عليه أن يملأ خطابه منه ، كما أولع بذلك أبو تمام والبحتري ، وإن كان البحتري أشغف بالمطابق ، وأقل طلبا للمجانس .

فإن قال قائل : هلا قلت : إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية ، لا يوصل إليها بالتعلم ، ولا تملك بالتعمل ؛ كما ذكرتم في البيان وغير ذلك ؟

قلنا : لو عمد إلى كتاب " الأجناس " ، ونظر في كتاب " العين " ؛ لم يتعذر عليه التجنيس الكثير .

فأما " الإطباق " فهو أقرب منه . وليس كذلك البيان والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها ؛ لأنها لا تستوفى بالتعلم .

[ ص: 285 ] فإن قيل : فالبيان قد يتعلم ؟

قيل : إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتقارب فيه الناس ، وتتناهى فيه العادات ، وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل ، وأن الناس يتقاربون في ذلك ، فيرمون فيه إلى حد ، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي ، ولم يقدروا على التعدي ؛ إلا أن يحصل ما يخرق العادة ، وينقض العرف ؛ ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات ، على شروط في ذلك .

والقدر الذي يفوت الحد في البيان ، ويتجاوز الوهم ، ويشذ عن الصنعة ، ويقذفه الطبع في النادر القليل ، كالبيت البديع ، والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر ، والفقرة تتفق في رسالة كاتب ، حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين ، أو قطعة أو قطعتين ؛ والأديب شهير كلمة أو كلمتين - ذلك أمر قليل .

ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك ، ويستمر على ذلك المنهج ؛ أمكن أن يدعي فيه الإعجاز .

ولكنك إن كنت من أهل الصنعة : تعلم قلة الأبيات الشوارد ، والكلمات الفرائد ، وأمهات القلائد .

فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية ، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية - لم تجد ذلك في الدواوين ، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين .

ونحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة ، ولفظة بديعة ؛ وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو نحوها ، وأحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة ، ومقدار في الخطابة .

وهذا كما قلناه : من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن ، وإن لم يكن له حكم الشعر .

[ ص: 286 ] * * *

فأما قدر المعجز فقد بينا أنها السورة ، طالت أو قصرت ، وبعد ذلك خلاف :

من الناس من قال : مقدار كل سورة أو أطول آية ، فهو معجز .

وعندنا كل واحد من الأمرين معجز ، والدلالة عليه ما تقدم ، والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك ، فلذلك لم نحكم بإعجازه ، وما صح أن تتبين فيه البلاغة ؛ ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى وأجزل لفظ ، وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام .

فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى ، كان بالغا وبليغا . فإذا تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة ، وانتهى إلى أمد يعجز عنه الكامل في البراعة - صح أن يكون له حكم المعجزات ، وجاز أن يقع موقع الدلالات .

وقد ذكرنا أنه بجنسه وأسلوبه مباين لسائر كلامهم ، ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي يقدر عليه البشر .

* * *

فإن قيل : فإذا كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة ، تباين جميع ديوانه في البلاغة ، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه ، ولا يعرف سبب ذلك البيت ، ولا تلك القطعة في التفصيل ، ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك أو يجعل جميع كلامه من ذلك النمط ، لم يجد إلى ذلك سبيلا ، وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة ؛ لأنه يتفق من المتأخر فيها - فهلا قلتم : إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغه القصوى ، [ ص: 287 ] كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت وسمت تلك القطعة ؟ وهلا قلتم : إن القرآن من هذا الباب ؟

فالجواب : أنا لم نجد أحدا بلغ الحد الذي وصفتم في العادة . وهذا الناس وأهل البلاغة أشعارهم عندنا محفوظة ، وخطبهم منقولة ، ورسائلهم مأثورة ، وبلاغاتهم مروية ، وحكمهم مشهورة ؛ وكذلك أهل الكهانة والبلاغة ، مثل قس بن ساعدة ، وسحبان وائل ، ومثل شق ، وسطيح ، وغيرهم - كلامهم معروف عندنا ، وموضوع بين أيدينا ، لا يخفى علينا في الجملة بلاغة بليغ ، ولا خطابة خطيب ، ولا براعة شاعر مفلق ، ولا كتابة كاتب مدقق .

فلما لم نجد في شيء من ذلك ما يداني القرآن في البلاغة ، أو يشاكله في الإعجاز ، مع ما وقع من التحدي إليه المدة الطويلة ، وتقدم من التقريع في المجازاة الأمد المديد ، وثبت له وحده خاصة قصب السبق ، والاستيلاء على الأمد ، وعجز الكل عنه ، ووقفوا دونه حيارى ، يعرفون عجزهم ، وإن جهل قوم سببه ، ويعلمون نقصهم ، وإن أغفل قوم وجهه - رأينا أنه ناقض للعادة ، ورأينا أنه خارق للمعروف في الجبلة . وخرق العادة إنما يقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات ، وعلى أن من ظهرت عليه ، ووقعت موقع الهداية إليه ، صادق فيما يدعيه من نبوته ، ومحق في قوله ، ومصيب في هديه ، قد شهدت له الحجة البالغة ، والكلمة التامة ، والبرهان النير ، والدليل البين .

التالي السابق


الخدمات العلمية