الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 61 ] لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها ، لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية .

                        وبيان ذلك : من جهة النظر ، والنقل الشرعي العام .

                        أما النظر فمن وجوه :

                        أحدهما : أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها ، استجلابا لها ، أو مفاسدها ، استدفاعا لها . لأنها إما دنيوية أو أخروية .

                        فأما الدنيوية; فلا يستقل باستدراكها على التفصيل ألبتة ، لا في ابتداء وضعها أولا ، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها ، إما في السوابق ، وإما في اللواحق ، لأن وضعها أولا لم يكن إلا بتعليم الله تعالى; لأن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض علم كيف يستجلب مصالح دنياه ، إذ لم يكن ذلك من معلومه أولا ، إلا على قول من قال : إن ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ، وعند ذلك يكون تعليما غير عقلي ، ثم توارثته ذريته كذلك في الجملة ، لكن [ ص: 62 ] فرعت العقول من أصولها تفريعا تتوهم استقلالها به ، ودخل في الأصول الدواخل حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات ، إذ لم تجر مصالح الفترات على استقامة; لوجود الفتن والهرج ، وظهور أوجه الفساد .

                        فلولا أن من الله على الخلق ببعثة الأنبياء ، لم تستقم لهم حياة ، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم ، وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين .

                        وأما المصالح الأخروية ، فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها ، وهي العبادات مثلا; فإن العقل لا يشعر بها على الجملة ، فضلا عن العلم بها على التفصيل .

                        ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية ، فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال; فإن الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر بها .

                        ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل قبل النظر في الشرع ، فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه ، لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل ، والأنبياء أيضا لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر ، وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية .

                        غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس; بعث الله نبيا من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله ، وهو التعبد لله ، فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة ، ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة [ ص: 63 ] بعدها بعض الأصول المعلومة .

                        فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول ، فتلقفوها أو تلقفوا منها ، فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم ، وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا .

                        وليس الأمر كما زعموا ، فالعقل غير مستقل ألبتة ، ولا ينبني على غير أصل ، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق ، ولا يمكن في أحوال الآخرة قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي ، ولهذا المعنى بسط سيأتي إن شاء الله .

                        فعلى الجملة : العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي ، فالابتداع مضاد لهذا الأصل ، لأنه ليس له مستند شرعي بالفرض ، فلا يبقى إلا ما ادعوه من العقل .

                        فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها ما رام تحصيله من جهتها ، فصارت كالعبث .

                        هذا إن قلنا : إن الشرائع جاءت لمصالح العباد .

                        وأما على القول الآخر; فأحرى أن لا يكون صاحب البدعة على ثقة منها; لأنها إذ ذاك مجرد تعبد وإلزام من جهة الآمر للمأمور ، والعقل بمعزل عن هذه الخطة حسبما تبين في علم الأصول .

                        وناهيك من نحلة ينتحلها صاحبها في أرفع مطالبة لا ثقة بها ، ويلقي من يده ما هو على ثقة منه .

                        والثاني : أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان :

                        [ ص: 64 ] لأن الله تعالى قال فيها : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .

                        وفي حديث العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب ، فقلنا : يا رسول الله ! إن هذه موعظة مودع ، فما تعهد إلينا ؟

                        قال : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الراشدين من بعدي
                        الحديث .

                        وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا ، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة .

                        فإذا كان كذلك ، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله : إن الشريعة لم تتم ، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها; لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه; لم يبتدع ، ولا استدرك عليها ، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم .

                        قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : " من ابتدع في الإسلام [ ص: 65 ] بدعة يراها حسنة ، زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، فما لم يكن يومئذ دينا ، فلا يكون اليوم دينا .

                        والثالث : أن المبتدع معاند للشرع ، ومشاق له; لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة ، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، وأخبر أن الخير فيها ، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك ، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم ، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين . فالمبتدع راد لهذا كله ، فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر ، ليس ما حصره الشارع بمحصور ، ولا ما عينه بمتعين ، كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم ، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع ، أنه علم ما لم يعلمه الشارع ، وهذا إن كان مقصودا للمبتدع; فهو كفر بالشريعة والشارع ، وإن كان غير مقصود; فهو ضلال مبين .

                        وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية ؟ فكتب إليه :

                        أما بعد; فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته .

                        فعليك بلزوم السنة ; فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق .

                        فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم; فإنهم على علم وقفوا ، [ ص: 66 ] وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى ، وبفضل كانوا فيه أحرى . فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم ، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم ، ورغب بنفسه عنهم ، إنهم لهم السابقون ، فقد تكلموا منه بما يكفي ، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم مقصر ، وما فوقهم محسر ، لقد قصر عنهم آخرون [ فجفوا ، وطمح عنهم ] فغلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم .

                        ثم ختم الكتاب بحكم مسألته .

                        فقوله : " فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها " ; فهو مقصود الاستشهاد .

                        والرابع : أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع ; لأن الشارع وضع الشرائع ، وألزم الخلق الجري على سننها ، وصار هو المنفرد بذلك ، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون ، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ، ولم يبق الخلاف بين الناس ، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام .

                        [ فـ ] هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا للشارع ، حيث شرع مع الشارع ، وفتح للاختلاف بابا ، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع ، وكفى بذلك .

                        [ ص: 67 ] والخامس : أنه اتباع للهوى; لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع ، لم يبق له إلا الهوى والشهوة ، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين .

                        ألا ترى قول الله تعالى : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) .

                        فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده ، وهو الحق والهوى ، وعزل العقل مجردا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك .

                        وقال : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) ، فجعل الأمر محصورا بين أمرين : اتباع الذكر ، واتباع الهوى .

                        وقال : ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) . وهي مثل ما قبلها .

                        وتأملوا هذه الآية; فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه ، فلا أحد أضل منه . وهذا شأن المبتدع ، فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله . وهدى الله هو القرآن .

                        وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين :

                        أحدهما : أن يكون تابعا للأمر والنهي ، فليس بمذموم ولا صاحبه [ ص: 68 ] بضال ، كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه ؟ وهو شأن المؤمن التقي .

                        والآخر : أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول ، كان الأمر والنهي تابعين بالسنة إليه أو غير تابعين وهو المذموم .

                        والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى ربه ، فكان أضل الناس ، وهو يظن أنه على هدى .

                        وقد انجر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه ، وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين :

                        أحدهما : الشريعة ، ولا مرية في أنها علم وحق وهدى .

                        والآخر : الهوى ، وهو المذموم; لأنه لم يذكر في القرآن إلا في مساق الذم .

                        ولم يجعل ثم طريقا ثالثا ، ومن تتبع الآيات; ألفى ذلك كذلك .

                        ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حمد إنما هو القرآن وما نزل من عند الله :

                        كقوله تعالى : ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) .

                        وقال بعد ذلك : ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ) [ ص: 69 ] وقال : ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) . وهذا كله لاتباع أهوائهم في التشريع بغير هدى من الله .

                        وقال : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ) ، وهو اتباع الهوى في التشريع ، إذ حقيقته افتراء على الله . وقال : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ) أي لا يهديه دون الله شيء . وذلك بالشرع لا بغيره ، وهو الهدى .

                        وإذا ثبت هذا ، وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى ، تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد ، فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى ، فهو إذا اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام .

                        ودع النظر العقلي في المعقولات المحضة ، فلا كلام فيه هنا ، وإن كان أهله قد زلوا أيضا بالابتداع; فإنما زلوا من حيث ورود الخطاب ومن حيث التشريع .

                        ولذلك عذر الجميع قبل إرسال الرسل ، أعني : في خطئهم في التشريعات والعقليات ، حتى جاءت الرسل ، فلم يبق لأحد حجة يستقيم [ ص: 70 ] إليها ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ( فلله الحجة البالغة )

                        فهذه قاعدة ينبغي أن تكون من بال الناظر في هذا المقام ، وإن كانت أصولية ، فهذه نكتتها مستنبطة من كتاب الله ، انتهى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية