الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 617 ] الرابعة : إذا تعارض دليلان عند المجتهد ، ولم يترجح أحدهما لزمه التوقف ، وهو قول أكثر الحنفية والشافعية ، وقال بعض الفئتين : يخير بالأخذ بأيهما شاء .

                لنا : إعمالهما جمعا بين النقيضين ، وإعمال أحدهما من غير مرجح تحكم ، فتعين التوقف على ظهور المرجح .

                قالوا : التوقف لا إلى غاية تعطيل ، وربما لم يقبل الحكم التأخير ، وإلى غاية مجهولة ممتنع ، ومعلومة لا يمكن ؛ إذ ظهور المرجح ليس إليه ، فتعين التخيير ، وقد ورد الشرع به ، كتخيير المزكي بين أربع حقاق أو خمس بنات لبون عن مائتين ، وتخير العامي أحد المجتهدين ، أو أحد جدران الكعبة ، وفي خصال الكفارة ، ونحوها .

                قلنا : يتوقف حتى يظهر المرجح ، ولا استحالة ، كما يتوقف إذا لم يجد دليلا ابتداء ، أو كتعارض البينتين .

                والتخيير رافع لحكم كل من الدليلين ، والتخيير في الصور المذكورة قام دليله ، فلا يلحق به ما لم يقم عليه دليل .

                التالي السابق


                المسألة " الرابعة : إذا تعارض دليلان عند المجتهد ، ولم يترجح أحدهما ، لزمه التوقف ، وهو قول أكثر الحنفية والشافعية ، وقال بعض الفئتين " - يعني الطائفتين ، الواحدة فئة - : " يخير بالأخذ بأيهما شاء " .

                قلت : ذكر الغزالي بناء ذلك على التعيين والتصويب ، فمن قال : المصيب واحد ؛ قال : لا تعارض في أدلة الشرع من غير ترجيح ، وإنما هذا لعجز المجتهد ، فيلزمه التوقف ، أو الأخذ بالاحتياط ، أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح .

                [ ص: 618 ] أما المصوبة ، فقال بعضهم : يتوقف ، وقال القاضي منهم : يتخير .

                قوله : " لنا : " إلى آخره . هذه حجة التوقف . وتقريرها : أن الدليلين إذا تعارضا ، فإما أن يعملهما ، أي : يعمل بهما جميعا ، أو يعمل أحدهما . والأول يوجب الجمع بين النقيضين ؛ النفي والإثبات ، والتحليل والتحريم ، وهو باطل ، والثاني ترجيح بلا مرجح ، وهو تحكم ، " فتعين التوقف على ظهور المرجح " .

                ويرد على هذا الدليل أن القسمة فيه غير حاصرة ، إذ بقي قسمان آخران :

                أحدهما : إهمال الدليلين ، والرجوع إلى ما قبل الشرع .

                والثاني : التخيير بينهما ، وهو مدعى الخصم ، والقسمان لم يتعرض فيه لهما .

                قوله : " قالوا : " ، إلى آخره . هذه حجة أصحاب التخيير ، وهي من وجهين :

                أحدهما : أن التوقف إما أن يكون لا إلى غاية ، أو إلى غاية ، والأول باطل ، لأن " التوقف لا إلى غاية تعطيل " للواقعة عن حكم ، وربما لم يكن الحكم قابلا للتأخير ، والثاني أيضا باطل ، لأن غاية التوقف إما مجهولة أو معلومة ، والأول ممتنع ، لأنه يوقع الجهالة في أحكام الشرع ، وليس شأنها ذلك ، والثاني باطل أيضا ، لأن ظهور المرجح ليس إلى المجتهد ، فلا يصح أن تكون غاية التوقف معلومة ، وإذا انتفى التوقف إلى غاية أو إلى غير [ ص: 619 ] غاية ؛ تعين التخيير ، وهو أن يعمل بأي الدليلين شاء .

                الوجه الثاني : أن الشرع قد ورد بالتخيير ، فينبغي أن لا يكون ممتنعا ههنا .

                أما ورود الشرع به ، ففي صور :

                منها : أن المزكي إذا كان عنده مائتان من الإبل ، خير بين أن يخرج عنها أربع حقاق ، أو خمس بنات لبون ؛ على حساب في كل أربعين بنت لبون ، وفي كل خمسين حقة . فقد وجد مقتضى إخراج الحقاق وبنات اللبون .

                ومنها : أن العامي إذا أفتاه مجتهدان ، يخير بين قوليهما ، أو إذا وجد مجتهدين يخير بين استفتاء أيهما شاء .

                ومنها : أن المصلي عند الكعبة يتخير في استقبال أي جدرانها شاء .

                ومنها : في خصال الكفارة يتخير بين العتق والإطعام والصيام . ونحو هذه الصور من صور التخيير واقع في الشرع .

                وأما أنه ينبغي أن لا يمتنع التخيير ههنا ، فلأنها صور شرعية ، فجاز التخيير فيها كسائر صور الشرع التخييرية .

                قوله : " قلنا : " ، إلى آخره . هذا جواب عن الوجه الأول .

                وتقريره : أنا لا نسلم أنه إذا امتنع التوقف تعين التخيير ، بل " يتوقف حتى يظهر " له " المرجح ، ولا استحالة " في ذلك ، " كما يتوقف إذا لم يجد دليلا ابتداء " حتى يجد دليلا ، كما يتوقف عند تعارض البينتين على المرجح .

                أما " التخيير " فإنه " رافع لحكم كل " واحد من " الدليلين " ، فلا يجوز ، إذ [ ص: 620 ] حكم أحدهما الإثبات المعين ، وحكم الآخر النفي المعين ، والتخيير رافع لكل منهما ، كالجمع بينهما لو تصور ، وحيث يتصور .

                قلت : وحاصل هذا الجواب التزام التوقف إلى غاية مجهولة ، لأنه معنى التوقف إلى ظهور المرجح .

                قوله : " والتخيير في الصور المذكورة " . هذا جواب الوجه الثاني ، وهو أن " التخيير في الصور المذكورة قام دليله " شرعا ، والتخيير في محل النزاع لم يقم دليله شرعا ، فلا يصح إلحاقه به ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية