الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 638 ] السابعة : إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها ، فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها ، إذ الحكم يتبع العلة ، وإن لم يبين العلة فلا ، وإن أشبهتها ، إذ هو إثبات مذهب بالقياس ، ولجواز ظهور الفرق له لو عرضت عليه ، ولو نص في مسألتين مشتبهتين على حكمين مختلفين لم يجز أن يجعل فيهما روايتان بالنقل والتخريج ، كما لو سكت عن إحداهما وأولى ، والأولى جواز ذلك بعد الجد والبحث من أهله ، إذ خفاء الفرق مع ذلك وإن دق ممتنع عادة .

                وقد وقع في مذهبنا ، فقال في " المحرر " : ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا صلى فيه ، وأعاد ، نص عليه ، ونص فيمن حبس في موضع نجس فصلى فيه أنه لا يعيد ، فيتخرج فيهما روايتان ، وذكر مثل ذلك في الوصايا والقذف ، ومثله في مذهب الشافعي كثير .

                ثم التخريج قد يقبل تقرير النصين وقد لا يقبل .

                التالي السابق


                المسألة " السابعة : إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها ، فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها " ، أي : إذا نص المجتهد على حكم في مسألة ، وبين علة ذلك الحكم ما هي ، ثم وجدت تلك العلة في مسائل أخر ؛ فمذهبه في تلك المسائل كمذهبه في المسألة المنصوص عليها ، لأن " الحكم يتبع العلة " فيوجد حيث وجدت ، ولأن هذا قد [ ص: 639 ] وجد في كلام صاحب الشرع ، ففي كلام المجتهدين كذلك وأولى ، لأن الله - عز وجل - أوجب الكفارة في سياق ذمهم بأنهم يقولون : منكرا من القول وزورا [ المجادلة : 2 ] ، ففهمنا من ذلك تعليل وجوب الكفارة بقول المنكر والزور على جهة العقوبة ، فقلنا : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أبي ؛ لزمتها الكفارة ، لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور كما علل به الخرقي . وقد يرد على هذا أنه يقتضي جعل المرأة مظاهرة وقد نفاه الخرقي ، وإنما أوجب عليها كفارة الظهار .

                قلت : والتزام ذلك لا يمتنع . ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهرة : إنها من الطوافين ووجدت علة الطواف في غيرها ؛ جعلنا حكم الشرع في ذلك واحدا . وقد روى أحمد ، أو روي له : أن قوما على ماء لهم مر بهم قوم آخرون ، فاستسقوهم فلم يسقوهم حتى ماتوا عطشا ، فضمن عمر أصحاب الماء دياتهم . فقيل لأحمد : أتقول بهذا ؟ قال : إي والله ؛ يقول عمر - رضي الله عنه - ولا آخذ به ! فلما علل بأن عمر - رضي الله عنه - قاله ؛ دل على أنه يأخذ بقول عمر وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - في كل حكم ما لم يمنعه مانع ، وأن قول الصحابي عنده حجة مطلقا .

                قوله : " وإن لم يبين العلة " يعني المجتهد إذا نص على حكم في مسألة ، ولم يبين علته " فلا " أي : فلا يحكم بحكم تلك المسألة في غيرها [ ص: 640 ] من المسائل ، " وإن أشبهتها " يعني المسألة المنصوص عليها وغيرها في الصورة ، لأن ذلك " إثبات مذهب " له " بالقياس " بغير جامع " ولجواز ظهور الفرق له " أي : للمجتهد " لو عرضت عليه " المسألة التي لم ينص على حكمها أي : لو عرض على المجتهد المسألتان التي نص على حكمها وغيرها لجاز أن يظهر له الفرق بينهما ، فيثبت الحكم فيما نص عليه دون غيره . وحينئذ لا يجوز لنا أن نثبت له حكما - يجوز أن يبطله بظهور الفرق له ، بخلاف ما إذا نص على علة الحكم في مسألة فألحقنا بها غيرها بعلته فيها ، فإنه لا يجوز أن يظهر للمجتهد فرق لو عرضتا عليه .



                قوله : " ولو نص " ، يعني المجتهد " في مسألتين مشتبهتين على حكمين مختلفين ؛ لم يجز أن يجعل فيهما روايتان بالنقل والتخريج كما لو سكت عن إحداهما وأولى " .

                أي : كما أنه إذا نص على حكم في مسألة ، وسكت عن مسألة أخرى تشبهها ، فلم ينص على حكم فيها ، فلم يجز أن ينقل حكم المنصوص عليها إلى المسكوت عنها ، كذلك إذا نص على المسألتين بحكمين مختلفين لم يجز أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى ويخرجه قولا له فيها فيصير له فيها قولان ، بل هذا أولى بالمنع ، لأنه إذا لم يجز نقل حكم المنصوص عليه إلى المسكوت عنه الذي لم ينص عليه بنفي ولا إثبات ، فأولى أن لا ينقله إلى منصوص عليه بنقيض الحكم ، لأنا في الأول نكون قد قولناه ما لم يقله ، مع أنه لو قال في المسألة المسكوت عنها لجاز أن يقول كما قولناه فيها ، وفي الثانية قولناه نقيض ما قال ، فلا يتصور موافقته لنا فيها الآن بحال .

                [ ص: 641 ] قوله : " والأولى جواز ذلك " ، أي : جواز نقل حكم إحدى المسألتين المشتبهتين المنصوص على حكمهما إلى الأخرى ، إذا كان ذلك " بعد البحث والجد " فيه " من أهله " ، أي : من أهل النظر والبحث ممن تدرب في النظر ، وعرف مدارك الأحكام ومآخذها ، لأن " خفاء الفرق " بين المسألتين الذي يقتضي اختلافهما في الحكم " مع ذلك " ، أي : مع أهلية النظر " ممتنع " في العادة " وإن دق " يعني ذلك الفرق .

                قلت : وقياس هذا جواز ذلك في نقل حكم المنصوص عليه إلى المسكوت عنه ، إذا عدم الفرق المؤثر بينهما بعد النظر البالغ من أهله ، لأن عدم ظهور الفرق والحالة هذه ممتنع في العادة .

                وقوله : " وقد وقع " - يعني النقل والتخريج - " في مذهبنا ، فقال في المحرر " : لنا في باب ستر العورة : " ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا صلى فيه وأعاد ; نص عليه ، ونص فيمن حبس في موضع نجس فصلى أنه لا يعيد ، فيتخرج فيهما روايتان " ، وذلك لأن طهارة الثوب والمكان ، كلاهما شرط في الصلاة ، وهذا وجه الشبه بين المسألتين . وقد نص في الثوب النجس أنه يعيد فينقل حكمه إلى المكان ، ويتخرج فيه مثله ، ونص في الموضع النجس على أنه لا يعيد ، فينقل حكمه إلى الثوب النجس ، فيتخرج فيه مثله ، فلا جرم صار في كل واحدة من المسألتين روايتان إحداهما بالنص والأخرى بالنقل .

                قوله : " وذكر " يعني صاحب " المحرر " مثل ذلك " ، أي : مثل ما ذكرناه من النقل والتخريج " في الوصايا والقذف " .

                [ ص: 642 ] فقال في الوصايا : ومن وجدت له وصية بخطه عمل بها ; نص عليه ، ونص فيمن كتب وصيته وختمها وقال : اشهدوا بما فيها : أنه لا يصح ، فتخرج المسألتان على روايتين . ووجه الشبه بين المسألتين أن في كل واحدة منهما قد وجدت وصيته بخطه ، وقد نص فيهما على حكمين مختلفين ، فيخرج الخلاف في كل واحدة منهما بالنقل والتخريج كما سبق .

                وقال في القذف : ومن قال لامرأته : يا زانية ، فقالت : بك زنيت ; سقط عنه حقها بتصديقها ، ولم تكن قاذفة له ; نص عليه ، ونص فيمن قال لزوجته : زنى بك فلان . إنه قاذف لهما ، فتخرج المسألتان على روايتين . ووجه الشبه بينهما أنها في قولها له : بك زنيت قاذفة له بالالتزام والتبع ، وهو في قوله لها زنى بك فلان ; قاذف لفلان بالتبع . وقد اختلف نصه في المسألتين فيخرج الخلاف كما سبق .

                قوله : " ومثله " ، أي : ومثل ما حكيناه عن مذهبنا من النقل والتخريج " في مذهب الشافعي كثير " . وذلك لاختلاف نصوص الشافعي - رضي الله عنه - في المسائل المشتبهة .

                قوله : " ثم التخريج قد يقبل تقرير النصين ، وقد لا يقبل " . يعني أنا إذا خرجنا حكم كل واحدة من المسألتين في الأخرى لاشتباههما ، فقد يمكننا بتدقيق النظر أن نقرر كل مسألة على ما نص فيها الإمام فقط من غير نقل حكم إحداهما إلى الأخرى ، بأن نبدي بينهما فرقا مناسبا لاختصاص كل واحدة منهما بما نص عليه فيها . فهذا يسمى تقرير النص . وقد لا يمكننا ذلك بأن لا يظهر بينهما فرقا مؤثرا مناسبا كذلك ، فلا يكون التخريج قابلا للتقرير .

                مثال ما يقبل التقرير : مسألة القذف المذكورة ، فإن الصورتين وإن اشتبهتا [ ص: 643 ] من حيث ذكرنا ، لكن الفرق بينهما من جهة أنها إذا قالت له : بك زنيت ، فهي غير قاصدة لقذفه ، وإنما قصدت إلزامه بمثل ما ألزمها ، وتوبيخه على تعبيره لها بفعل قد فعل مثله ، وذلك مما تنكره العقول السليمة ، كأنها قالت : إن عيرتني بالزنى فعير نفسك لأني وأنت اشتركنا فيه .

                ومن المشهور في إنكار تعيير الإنسان غيره بمثل ما فعله هو قوله - سبحانه وتعالى - : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [ البقرة : 44 ] ، وقول شعيب - عليه السلام - : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ هود : 88 ] ، وقول نبينا - عليه الصلاة والسلام - : لم يضحك أحدكم من الضرطة أيضحك أحدكم مما يفعل وقول الشاعر :


                لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم



                فهذا كله يشترك في المعنى الكلي الذي ذكرنا .

                أما إذا قال لها : زنى بك فلان ، فقد قصد قذفها ، وأسنده إلى فلان إسناد الفاعلية ، بخلاف قولها هي له : بك زنيت ، فإنها إنما أضافت الزنى إضافة الفاعلية إلى نفسها دونه ، فلذلك لم تكن قاذفة له ، بخلافه هو حيث كان قاذفا لها .

                ومثال ما لا يقبل التقرير مسألة الوصية ، فإنه لا يكاد ينقدح بين صورتيها فرق مؤثر .

                أما مسألة ستر العورة ، ففي قبولها للتقرير نظر ، إذ من جهة اشتراك الثوب [ ص: 644 ] والمكان في الاشتراط يتعذر وجود الفارق المؤثر بينهما ، ومن جهة أن المكان من ضرورات الصلاة وغيرها من الأفعال عقلا ، إذ لا يتصور فعل إلا في مكان ، بخلاف الثوب فإنه ليس من ضروراتها عقلا ، إذ يتصور فعلها بدونه ، كصلاة العريان ينقدح الفرق بينهما فيتجه التقرير .



                فائدة : كثيرا ما يقع في كلام الفقهاء : في هذه المسألة قولان بالنقل والتخريج ، وصفته ومثاله ما ذكرنا ، ويقولون أيضا : يتخرج أن يكون كذا ، وتتخرج هذه المسألة على مسألة كذا ، أو في هذه المسألة تخريج ، فيقال : ما الفرق بين التخريج ، وبين النقل والتخريج ؟ .

                والجواب : أن النقل والتخريج يكون من نص الإمام بأن ينقل عن محل إلى غيره بالجامع المشترك بين محلين كما ذكرنا من الأمثلة ، والتخريج يكون من قواعده الكلية .

                مثاله : قولنا : لا يصح التيمم لفرض قبل وقته ، ولا لنفل في وقت المنع منه ، ويبطل التيمم بخروج الوقت ، ولا يصلي به حتى يحدث ، ويتخرج خلاف ذلك كله بناء على أن التيمم يرفع الحدث ; وهو قاعدة من قواعد التيمم ، وإن كان مرجوعا عنه عندنا .

                وقولنا : إذا وجد المتيمم الماء في الصلاة خرج فتطهر وابتدأها ، ويتخرج أن يتطهر ويبني بناء على من سبقه الحدث في الصلاة هل يستأنف أو يبني .

                وقولنا : من أتلف لذمي خمرا أو خنزيرا ، لم يضمنه ، ويتخرج أن يضمن الذمي خمر الذمي بناء على أنها مال لهم .

                [ ص: 645 ] واعلم أن التخريج أعم من النقل والتخريج ، لأن التخريج يكون من القواعد الكلية للإمام ، أو الشرع ، أو العقل ، لأن حاصله أنه بناء فرع على أصل بجامع مشترك ، كتخريجنا على قاعدة تفريق الصفقة فروعا كثيرة ، وعلى قاعدة تكليف ما لا يطاق أيضا فروعا كثيرة في أصول الفقه وفروعه ، كما ذكرنا في غير هذا الكتاب .

                وأما النقل والتخريج ، فهو مختص بنصوص الإمام .




                الخدمات العلمية