الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8122 ) مسألة ; قال : ( ولو قال : والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك . فهرب منه ، لم يحنث . ولو قال : لا افترقنا . فهرب منه ، حنث ) أما إذا حلف : لا فارقتك . ففيه مسائل عشر ; أحدها ، أن يفارقه الحالف مختارا ، فيحنث ، بلا خلاف ، سواء أبرأه من الحق أو فارقه ، والحق عليه ; لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه . الثانية ، فارقه مكرها ، فينظر ; فإن حمل مكرها حتى فرق بينهما ، لم يحنث .

                                                                                                                                            وإن أكره بالضرب والتهديد ، لم يحنث . وفي قول أبي بكر : يحنث . وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى . الثالثة ، هرب منه الغريم بغير اختياره ، فلا يحنث . وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وأصحاب الرأي . وروي عن أحمد ، أنه يحنث ; لأن معنى يمينه أن لا تحصل بينهما فرقة ، وقد حصلت . ولنا ، أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة ، وما فعل ، ولا فعل باختياره ، فلم يحنث ، كما لو حلف : لا قمت . فقام غيره .

                                                                                                                                            الرابعة ، أذن له الحالف في الفرقة ، ففارقه ، فمفهوم كلام الخرقي ، أنه يحنث . وقال الشافعي : لا يحنث . وقال القاضي : وهو قول الخرقي ; لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف إنه لا يفعلها . ولنا ، أن معنى يمينه لألزمنك . وإذا فارقه بإذنه فما لزمه ، ويفارق ما إذا هرب منه ; لأنه فر بغير اختياره ، وليس هذا قول الخرقي ; ولأن الخرقي قال : فهرب منه . فمفهومه أنه إذا فارقه بغير هرب ، أنه يحنث . الخامسة ، فارقه من غير إذن ، ولا هرب ، على وجه يمكنه ملازمته ، والمشي معه ، وإمساكه ، فلم يفعل ، فالحكم فيها كالتي قبلها .

                                                                                                                                            السادسة ، قضاه قدر حقه ، ففارقه ظنا منه أنه وفاه ، فخرج رديئا أو بعضه ، فيخرج في الحنث روايتان ; بناء على الناسي . وللشافعي قولان ، كالروايتين ; أحدهما ، يحنث . وهو قول مالك ، لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختارا . والثاني ، لا يحنث .

                                                                                                                                            وهو قول أبي ثور ، وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفا ، وإن وجد أكثرها نحاسا فإنه يحنث . وإن وجدها [ ص: 45 ] مستحقة ، فأخذها صاحبها ، خرج أيضا على الروايتين في الناسي ; لأنه ظان أنه مستوف حقه ، فأشبه ما لو وجدها رديئة . وقال أبو ثور . وأصحاب الرأي : لا يحنث ، وإن علم بالحال ففارقه ، حنث ; لأنه لم يوفه حقه .

                                                                                                                                            السابعة ، فلسه الحاكم ، ففارقه ، نظرت ; فإن ألزمه الحاكم ، فهو كالمكره ، وإن لم يلزمه مفارقته ، لكنه فارقه لعلمه بوجوب مفارقته ، حنث ; لأنه فارقه من غير إكراه ، فحنث ، كما لو حلف لا يصلي ، فوجبت عليه صلاة فصلاها .

                                                                                                                                            الثامنة ، أحاله الغريم بحقه ، ففارقه ، فإنه يحنث . وبهذا قال الشافعي ، وأبو ثور . وقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا يحنث . لأنه قد برئ إليه منه ولنا ، أنه ما استوفى حقه منه ، بدليل أنه لم يصل إليه شيء ، ولذلك يملك المطالبة به ، فحنث ، كما لو لم يحله . فإن ظن أنه قد بر بذلك ، ففارقه ، فقال أبو الخطاب : يخرج على الروايتين . والصحيح أنه يحنث ; لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه ، فلا يسقط عنه الحنث ، كما لو جهل كون هذه اليمين موجبة للكفارة .

                                                                                                                                            فأما إن كانت يمينه : لا فارقتك ولي قبلك حق . فأحاله به ، ففارقه ، لم يحنث ; لأنه لم يبق له قبله حق . وإن أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ، ففارقه ، حنث ، بلا إشكال ; لأنه يملك مطالبة الغريم . التاسعة ، قضاه عن حقه عوضا عنه ، ثم فارقه . فقال ابن حامد : لا يحنث . وهو قول أبي حنيفة ; لأنه قد قضاه . حقه وبرئ إليه منه بالقضاء .

                                                                                                                                            وقال القاضي : يحنث ; لأن يمينه على نفس الحق ، وهذا بدله . وإن كانت يمينه : لا فارقتك حتى تبرأ من حقي ، أو : لي قبلك حق . لم يحنث ، وجها واحدا ; لأنه لم يبق له قبله حق ، وهذا مذهب الشافعي . والأول أصح ; لأنه قد استوفى حقه . العاشرة ، وكل وكيلا يستوفي له حقه ، فإن فارقه قبل استيفاء الوكيل ، حنث ; لأنه فارقه قبل استيفاء حقه . وإن استوفى الوكيل ، ثم فارقه ، لم يحنث ; لأن استيفاء وكيله استيفاء له ، يبرأ به غريمه ، ويصير في ضمان الموكل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية