الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8130 ) مسألة ; قال : ( ولو حلف أن لا يأكل هذا الرطب ، فأكله تمرا ، حنث . وكذلك كل ما تولد من ذلك الرطب ) وجملة ذلك أنه إذا حلف على شيء عينه بالإشارة ، مثل أن حلف لا يأكل هذا الرطب ، لم يخل من حالين ; أحدهما ، أن يأكله رطبا ، فيحنث ، بلا خلاف بين الجميع ; لكونه فعل ما حلف على تركه صريحا . الثاني : أن تتغير صفته ، وذلك يقسم خمسة أقسام ; أحدها ، أن تستحيل أجزاؤه . ويتغير اسمه ، مثل أن يحلف : لا أكلت هذه البيضة . فصارت فرخا . أو لا أكلت هذه الحنطة . فصارت زرعا فأكله ، فهذا لا يحنث ; لأنه زال واستحالت أجزاؤه .

                                                                                                                                            وعلى قياسه ، إذا حلف : لا شربت هذا الخمر . فصارت خلا ، فشربه . القسم الثاني ، تغيرت صفته ، وزال اسمه ، مع بقاء أجزائه ، مثل أن يحلف : لا آكل هذا الرطب . فصار تمرا ، ولا أكلم هذا الصبي . فصار شيخا ، ولا آكل هذا الحمل . فصار كبشا . أو لا آكل هذا الرطب . فصار دبسا ، أو خلا ، أو ناطفا ، أو غيره من الحلواء . ولا يأكل هذه الحنطة ، فصارت دقيقا ، أو سويقا ، أو خبزا ، أو هريسة . أو : لا أكلت هذا العجين ، أو هذا الدقيق . فصار خبزا . أو : لا أكلت هذا اللبن . فصار سمنا ، أو جبنا ، أو كشكا . أو : لا دخلت هذه الدار . فصارت مسجدا ، أو حماما ، أو فضاء ، ثم دخلها أو أكله ، حنث في جميع ذلك .

                                                                                                                                            وبه قال أبو حنيفة ، فيما إذا حلف : لا كلمت هذا الصبي . فصار شيخا . ولا أكلت هذا الحمل . فصار كبشا . ولا : دخلت هذه الدار . فدخلها بعد تغيرها . وقال به أبو يوسف ، في الحنطة إذا صارت دقيقا . وللشافعي في الرطب إذا صار تمرا ، والصبي إذا صار شيخا ، والحمل إذا صار كبشا ، وجهان . وقالوا في سائر الصور : لا يحنث ; لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت ، فلم يحنث ، كما لو حلف لا يأكل هذه البيضة ، فصارت فرخا .

                                                                                                                                            ولنا ، أن عين المحلوف عليه باقية ، فحنث بها ، كما لو حلف : لا أكلت هذا الحمل . فأكل لحمه . أو : لا لبست هذا [ ص: 49 ] الغزل . فصار ثوبا ، فلبسه . أو : لا لبست هذا الرداء . فلبسه بعد أن صار قميصا أو سراويل .

                                                                                                                                            وفارق البيضة إذا صارت فرخا ; لأن أجزاءها استحالت ، فصارت عينا أخرى ، ولم تبق عينها ، ولأنه لا اعتبار بالاسم مع التعيين ، كما لو حلف : لا كلمت زيدا هذا . فغير اسمه . أو : لا كلمت صاحب هذا الطيلسان . فكلمه بعد بيعه . ولأنه متى اجتمع التعيين مع غيره مما يعرف به ، كان الحكم للتعيين ، كما لو اجتمع مع الإضافة .

                                                                                                                                            القسم الثالث ، تبدلت الإضافة ، مثل أن حلف : لا كلمت زوجة زيد هذه ، ولا عبده هذا ، ولا دخلت داره هذه . فطلق الزوجة ، وباع العبد والدار ، فكلمهما ، ودخل الدار ، حنث . وبه قال مالك ، والشافعي ، ومحمد ، وزفر . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : لا يحنث ، إلا في الزوجة ; لأن الدار لا توالى ولا تعادى ، وإنما الامتناع لأجل مالكها ، فتعلقت اليمين بها ، مع بقاء ملكه عليها ، وكذلك العبد في الغالب .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه إذا اجتمع في اليمين التعيين والإضافة ، كان الحكم للتعيين ، كما لو قال : والله لا كلمت زوجة فلان ، ولا صديقه . وما ذكروه لا يصح في العبد ; لأنه يوالي ويعادي ، ويلزمه في الدار إذا أطلق ، ولم يذكر مالكها ، فإنه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها إياها . القسم الرابع ، إذا تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت ، كمقص انكسر ثم أعيد ، وقلم انكسر ثم بري ، وسفينة تفصمت ثم أعيدت ، ودار هدمت ثم بنيت ، وأسطوانة نقضت ثم أعيدت ، فإنه يحنث ; لأن أجزاءها واسمها موجود ، فأشبه ما لو لم تتغير .

                                                                                                                                            القسم الخامس ، إذا تغيرت صفته بما لم يزل اسمه ، كلحم شوي أو طبخ ، وعبد بيع ، ورجل مرض ، فإنه يحنث به ، بلا خلاف نعلمه ; لأن الاسم الذي علق عليه اليمين لم يزل ، ولا زال التغير ، فحنث به ، كما لو لم يتغير حاله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية