الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 656 ] ولا تقليد في ما علم كونه من الدين ضرورة ، كالأركان الخمسة لاشتراك الكل فيه ، ولا في الأحكام الأصولية كمعرفة الله تعالى ، ووحدانيته ، وصحة الرسالة ، ونحوها ، لظهور أدلتها في نفس كل عاقل ، وإن منع العامي عيه من التعبير عنها .

                ولأن المقلد إن علم خطأ من قلده لم يجز أن يقلده ، أو أصابته فيم علمها إن كان لتقليده آخر ، فالكلام فيها كالأول ، أو باجتهاده فيه فليجتهد في المطلوب وليلغ واسطة التقليد . وفي هذه المسألة إشكال ، إذ العامي لا يستقل بدرك الدليل العقلي ، والفرق بينه وبين الشبه لاشتباههما ، لا سيما في زماننا هذا ; مع تفرق الآراء وكثرة الأهواء ، بل نحارير المتكلمين لا يستقلون بذلك ، فإذا منع من التقليد لزم أن لا يعتقد شيئا .

                التالي السابق


                قوله : " ولا تقليد فيما علم كونه من الدين ضرورة كالأركان الخمسة " ، وهي الشهادتان ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج . " لاشتراك الكل " يعني العامي وغيره في العلم بذلك ، إذ التقليد يستدعي جهل المقلد بما قلد فيه ، وذلك مستحيل فيما علم بالضرورة ، والعلم بهذه الأركان بالضرورة الحاصلة عن التواتر والإجماع ، وهما مركبان من المعقول والمنقول كما سبق ، وليس المراد بالضرورة العقلية المحضة .

                قوله : " ولا في الأحكام " ، أي : ولا يجوز التقليد في الأحكام " الأصولية " الكلية ، " كمعرفة الله تعالى ، ووحدانيته ، وصحة الرسالة ، ونحوها " من القطعيات الظاهرة الأدلة ، " لظهور أدلتها في نفس كل عاقل ، وإن منع العامي عيه " ، أي : قصور عبارته " من التعبير عنها " ، أي : عن تلك الأدلة الظاهرة ، [ ص: 657 ] فإن العامي إذا رأى هذا العالم باختلاف أجناسه وأنواعه وحركاته وما فيه من الحكمة والإتقان ، علم بالضرورة أن له صانعا ، وإن قصرت عبارته عن تقرير دليل الدور والتسلسل الدال على وجود الصانع ، وإذا رأى العالم جاريا على نظام الحكمة علم أن صانعه لا منازع له فيه ، ولا مشارك ، لما علم في مستقر العادة من أن الأشياء تفسد بتعدد المتنازعين فيها ، وإن لم يمكنه تقرير الدليل من قوله - عز وجل - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] ، وإذا رأى إنسانا قد ادعى النبوة ، وظهر على يديه خارق للعادة بشرطه ; علم صدقه وإن لم يمكنه تقرير دليل النبوة ، ودفع الشبه عنه .

                قوله : " ولأن المقلد " ، إلى آخره . هذا دليل آخر على امتناع التقليد في الأصول . وتقريره أن المقلد إما أن يعلم خطأ من قلده أو إصابته ، فإن علم خطأه ، " لم يجز أن يقلده " في الخطأ كما في الفروع وأولى ، وإن علم إصابته فإما أن يعلمها بتقليد آخر ، أو باجتهاده هو ، فإن علمها بتقليد شخص آخر قلنا : الكلام في هذا الشخص الآخر ، كالكلام في الأول وهو الذي قلدته ، فيقال له : بم علمت إصابة هذا الذي قلدته ، بتقليدك في ذلك غيرك ، أو باجتهادك ؟ ويتسلسل التعليل ، أو ينتهي إلى الاجتهاد ، وإن علم المقلد إصابة من قلده باجتهاده " فليجتهد في المطلوب وليلغ واسطة التقليد " ، فنقول له : إذا كان لك أهلية تعلم بها إصابة من تقلده من خطئه ، فاجتهد أنت فيما قلدت فيه ، وألغ واسطة التقليد ، أي : لا تجعل بينك وبين اعتقادك واسطة [ ص: 658 ] تقلدها ، لأن هذه الواسطة تكون لاغية لا فائدة فيها ، بل مع تقليدها إنما اعتمدت على اجتهادك . وهذا نحو من قول الفقهاء : الإقرار يلغي البينة ، وحضور شاهد الأصل يلغي اعتبار شاهد الفرع .

                قوله : " وفي هذه المسألة إشكال " ، أي : تكليف العامة الاجتهاد في مسائل الأصول ، لأن العامي لا يستقل بإدراك " الدليل العقلي " ، وبالفرق " بينه وبين الشبه لاشتباههما " ، أي : لاشتباه الدليل والشبهة ، إذ الدليل ما لزم من ثبوته ثبوت المدلول ، والشبهة توهم ثبوت ما نصبت للدلالة عليه لمشابهتها الدليل في بعض ذلك ، وهي غير دالة على ثبوته في نفس الأمر فيحتاج الناظر في أحكام الأصول أن يكون عارفا بتقرير الأدلة العقلية ودفع الشبه عنها ، وذلك بعيد عن العامي ، بل ممتنع في حقه عادة " لا سيما في زماننا هذا مع تفرق الآراء ، وكثرة الأهواء ، بل نحارير المتكلمين " وشطارهم " لا يستقلون بذلك " وحيث الأمر كذلك ، " فإذا منع " يعني العامي " من التقليد لزم أن لا يعتقد شيئا " ، لأن الاعتقاد الاجتهادي متعذر عليه ، والتقليد ممنوع منه .

                وحاصل هذا يرجع إلى منع عموم الدليل السابق على منع التقليد في الأصول لظهور أدلتها في نفس كل عاقل .

                وتقريره : لا نسلم ذلك ، بل إنما هي ظاهرة في نفوس العلماء . أما العامة فلا .




                الخدمات العلمية