الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8237 ) مسألة ; قال : ( ولا يحكم الحاكم بعلمه ) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره ، لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها . هذا قول شريح ، والشعبي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، ومحمد بن الحسن . وهو أحد قولي الشافعي . وعن أحمد رواية أخرى : يجوز له ذلك . وهو قول أبي يوسف ، وأبي ثور ، والقول الثاني للشافعي ، واختيار المزني ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي . قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } .

                                                                                                                                            فحكم لها من غير بينة ولا إقرار ، لعلمه بصدقها . [ ص: 102 ] وروى ابن عبد البر ، في " كتابه " أن عروة ومجاهدا رويا ، أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب ، أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا . قال عمر : إني لأعلم الناس بذلك ، وربما لعبت أنا وأنت فيه ، ونحن غلمان ، فأتني بأبي سفيان . فأتاه به ، فقال له عمر : يا أبا سفيان ، انهض بنا إلى موضع كذا وكذا . فنهضوا ، ونظر عمر ، فقال : يا أبا سفيان ، خذ هذا الحجر من هاهنا فضعه هاهنا . فقال : والله لا أفعل . فقال : والله لتفعلن . فقال : والله لا أفعل . فعلاه بالدرة ، وقال : خذه لا أم لك ، فضعه هاهنا ، فإنك ما علمت قديم الظلم . فأخذ أبو سفيان الحجر ، ووضعه حيث قال عمر ، ثم إن عمر استقبل القبلة ، فقال : اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه ، وأذللته لي بالإسلام . قال : فاستقبل القبلة أبو سفيان ، وقال : اللهم لك الحمد ، إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر .

                                                                                                                                            قالوا : فحكم بعلمه . ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين ، لأنهما يغلبان على الظن ، فما تحققه وقطع به ، كان أولى ، ولأنه يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم ، فكذلك في ثبوت الحق ، قياسا عليه . وقال أبو حنيفة : ما كان من حقوق الله ، لا يحكم فيه بعلمه ; لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة ، وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به ، وما علمه في ولايته ، حكم به ; لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته ، وما علمه في ولايته ، بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته .

                                                                                                                                            ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه } . فدل على أنه إنما يقضي بما يسمع ، لا بما يعلم { . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي : شاهداك أو يمينه ، ليس لك منه إلا ذاك } . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان ، فقال له أحدهما : أنت شاهدي . فقال : إن شئتما شهدت ولم أحكم ، أو أحكم ولا أشهد .

                                                                                                                                            وذكر ابن عبد البر ، في " كتابه " ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم { بعث أبا جهم على الصدقة ، فلاحاه رجل في فريضة ، فوقع بينهما شجاج ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الأرش ، ثم قال : إني خاطب الناس ، ومخبرهم أنكم قد رضيتم ، أرضيتم ؟ قالوا : نعم . فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب ، وذكر القصة ، وقال : أرضيتم ؟ قالوا : لا . فهم بهم المهاجرون ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ، ثم صعد ، فخطب الناس ، ثم قال : أرضيتم ؟ . قالوا : نعم } .

                                                                                                                                            وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه . وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : لو رأيت حدا على رجل ، لم أحده حتى تقوم البينة . ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته ، والحكم بما اشتهى ، ويحيله على علمه . فأما حديث أبي سفيان ، فلا حجة فيه ; لأنه فتيا لا حكم ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره ، ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته . وحديث عمر الذي رووه ، كان إنكارا لمنكر رآه ، لا حكما ، بدليل أنه ما وجدت منهما دعوى وإنكار بشروطهما ودليل [ ص: 103 ] ذلك ما رويناه عنه ، ثم لو كان حكما ، كان معارضا بما رويناه عنه ، ويفارق الحكم بالشاهدين ; فإنه لا يفضي إلى تهمة ، بخلاف مسألتنا .

                                                                                                                                            وأما الجرح والتعديل ، فإنه يحكم فيه بعلمه ، بغير خلاف ; لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه ، لتسلسل ، فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما ، فإذا لم يعمل بعلمه ، احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين ، ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين ، فيتسلسل ، وما نحن فيه بخلافه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية