الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 132 ] بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله

ومجامعها ثمانية أقسام :

القسم الأول

السماع من لفظ الشيخ

وهو ينقسم إلى إملاء ، وتحديث من غير إملاء ، وسواء كان من حفظه أو من كتابه ، وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير .

وفيما نرويه عن القاضي عياض بن موسى السبتي - أحد المتأخرين المطلعين - قوله : " لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه : " حدثنا ، وأخبرنا ، وأنبأنا ، وسمعت فلانا يقول ، وقال لنا فلان ، وذكر لنا فلان " .

قلت : في هذا نظر ، وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصا بما سمع من غير لفظ الشيخ - على ما نبينه إن شاء الله [ ص: 133 ] تعالى - أن لا يطلق فيما سمع من لفظ الشيخ لما فيه من الإيهام والإلباس ، والله أعلم .

وذكر الحافظ أبو بكر الخطيب أن أرفع العبارات في ذلك " سمعت " ثم " حدثنا وحدثني " ، فإنه لا يكاد أحد يقول : " سمعت " في أحاديث الإجازة والمكاتبة ، ولا في تدليس ما لم يسمعه .

وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له " حدثنا " ، وروي عن الحسن أنه كان يقول : " حدثنا أبو هريرة " ويتأول أنه حدث أهل المدينة ، وكان الحسن إذ ذاك بها إلا أنه لم يسمع منه شيئا .

قلت : ومنهم من أثبت له سماعا من أبي هريرة ، والله أعلم .

[ ص: 134 ] ثم يتلو ذلك قول : " أخبرنا " وهو كثير في الاستعمال ، حتى أن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يخبرون عما سمعوه من لفظ من حدثهم إلا بقولهم : " أخبرنا " ، منهم حماد بن سلمة ، وعبد الله بن المبارك ، وهشيم بن بشير ، وعبيد الله بن موسى ، وعبد الرزاق بن همام ، ويزيد بن هارون ، وعمرو بن عون ، ويحيى بن يحيى التميمي ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو مسعود أحمد بن الفرات ، ومحمد بن أيوب الرازيان ، وغيرهم .

وذكر الخطيب عن محمد بن رافع قال : كان عبد الرزاق يقول : [ ص: 135 ] " ‏أنا‏ " حتى قدم أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، فقالا له‏ : ‏قل‏ : " حدثنا " ، فكل ما سمعت مع هؤلاء قال‏ : " حدثنا " وما كان قبل ذلك قال‏ : " أنا‏ " . ‏

وعن ‏محمد بن أبي الفوارس الحافظ‏ قال‏ : هشيم ، ويزيد بن هارون ، وعبد الرزاق ، لا يقولون إلا " ‏أخبرنا " فإذا رأيت " ‏حدثنا " فهو من خطأ الكاتب ، والله أعلم‏ . ‏

قلت‏ : وكان هذا كله قبل أن يشيع تخصيص ( ‏أخبرنا ) بما قرئ على الشيخ ، ثم يتلو قول " ‏أخبرنا " قول " ‏أنبأنا‏ " ، و‏ " ‏نبأنا‏ " ، وهو قليل في الاستعمال‏ . ‏

قلت‏ : ( ‏حدثنا ، وأخبرنا‏ ) أرفع من ( ‏سمعت ) من جهة أخرى ، وهي أنه ليس في ( ‏سمعت ) دلالة على أن الشيخ رواه الحديث وخاطبه به ، وفي ( ‏حدثنا ، وأخبرنا‏ ) دلالة على أنه خاطبه به ورواه له ، أو هو ممن فعل به ذلك‏ . ‏

سأل ‏الخطيب أبو بكر الحافظ‏ شيخه أبا بكر البرقاني الفقيه الحافظ‏ - رحمهما الله تعالى - عن السر في كونه يقول فيما رواه لهم عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني الآبندوني " ‏سمعت " ولا يقول " ‏حدثنا ، ولا ‏أخبرنا " فذكر له‏ : أن أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عسرا في الرواية ، فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو [ ص: 136 ] القاسم ، ولا يعلم بحضوره ، فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل إليه‏ ، فلذلك يقول : " ‏سمعت " ، ولا يقول : " ‏حدثنا ، ولا أخبرنا " ، لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده‏ . ‏

وأما قوله " ‏قال لنا فلان ، أو ذكر لنا فلان " فهو من قبيل قوله : " ‏حدثنا فلان " غير أنه لائق بما سمعه منه في المذاكرة ، وهو به أشبه من ( ‏حدثنا ) ‏‏ . ‏

وقد حكينا في فصل التعليق - عقيب النوع الحادي عشر - عن كثير من المحدثين استعمال ذلك معبرين به عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات‏ . ‏

وأوضع العبارات في ذلك أن يقول‏ : " ‏قال فلان ، أو‏ : ذكر فلان " من غير ذكر قوله " ‏لي ، ولنا‏ " ونحو ذلك‏ . ‏

وقد قدمنا في فصل الإسناد المعنعن أن ذلك وما أشبهه من الألفاظ محمول عندهم على السماع ، إذا عرف لقاؤه له وسماعه منه على الجملة ، لا سيما إذا عرف من حاله أنه لا يقول : " ‏قال فلان " إلا فيما سمعه منه‏ . ‏

وقد كان حجاج بن محمد الأعور يروي عن ابن جريج كتبه ، ويقول فيها : " ‏قال ابن جريج " فحملها الناس عنه ، واحتجوا برواياته ، وكان قد عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه‏ . ‏

[ ص: 137 ] وقد خصص الخطيب أبو بكر الحافظ‏ القول بحمل ذلك على السماع بمن عرف من عادته مثل ذلك ، والمحفوظ المعروف ما قدمنا ذكره‏ . ‏ والله أعلم‏ . ‏

التالي السابق


الخدمات العلمية