الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8243 ) فصل : وإذا استعدى رجل على رجل إلى الحاكم ، ففيه روايتان ; إحداهما ، أنه يلزمه أن يعديه ، ويستدعي خصمه ، سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم ، وسواء كان المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله ، كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة .

                                                                                                                                            نص على هذا ، في رواية الأثرم ، في الرجل يستعدي ، على الحاكم ، أنه يحضره ويستحلفه . وهذا اختيار أبي بكر ، ومذهب أبي حنيفة ، والشافعي ; لأن في تركه تضييعا للحقوق ، وإقرارا للظلم ، فإنه قد ثبت له الحق على من هو أرفع منه بغصب ، أو يشتري منه شيئا ولا يوفيه ، أو يودعه شيئا ، أو يعيره إياه فلا يرده ، ولا تعلم بينهما معاملة ، فإذا لم يعد عليه ، سقط حقه ، وهذا أعظم ضررا من حضور مجلس الحاكم ، فإنه لا نقيصة فيه ، وقد حضر عمر وأبي عند زيد ، وحضر هو وآخر عند شريح ، وحضر علي عند شريح وحضر المنصور عند رجل ولد طلحة بن عبيد الله .

                                                                                                                                            والرواية الثانية ، لا يستدعيه إلا أن يعلم بينهما معاملة ، ويتبين أن لما ادعاه أصلا .

                                                                                                                                            روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو مذهب مالك ; لأن في ادعائه على كل أحد تبذيل أهل المروءات ، وإهانة لذوي الهيئات ، فإنه لا يشاء أحد أن يبذلهم عند الحاكم إلا فعل ، وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله ، والأولى أولى ; لأن ضرر تضييع الحق أعظم من هذا . وللمستدعى عليه أن يوكل من يقوم مقامه أن كره الحضور .

                                                                                                                                            وإن كان المستدعى عليه امرأة نظرت ; فإن كانت برزة ، وهي التي تبرز لقضاء حوائجها ، فحكمها حكم الرجل . وإن كانت مخدرة ، وهي التي لا تبرز لقضاء حوائجها ، أمرت بالتوكيل . فإن توجهت اليمين عليها ، بعث الحاكم أمينا معه شاهدان ، فيستحلفها بحضرتهما ، فإن أقرت ، شهدا عليها . وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها .

                                                                                                                                            وهو مذهب الشافعي ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها } فبعث إليها ولم يستدعها . وإذا حضروا عندها ، كان بينها وبينهم ستر تتكلم من ورائه ، فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه ، حكم بينهما ، وإن أنكرت ذلك ، جيء بشاهدين من ذوي رحمها ، يشهدان أنها المدعى عليها ، ثم يحكم بينهما ، فإن لم تكن له بينة ، التحفت بجلبابها ، وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة .

                                                                                                                                            وما ذكرناه أولى ، إن شاء الله ; لأنه أستر لها ، وإذا كانت خفرة ، منعها الحياء من النطق بحجتها ، والتعبير عن نفسها ، سيما مع جهلها بالحجة ، وقلة معرفتها بالشرع وحججه . ( 8244 ) فصل : ولا يخلو المستعدى عليه من أن يكون حاضرا أو غائبا ; فإن كان حاضرا في البلد أو قريبا منه ، فإن شاء الحاكم بعث مع المستعدي عونا يحضر المدعى عليه ، وإن شاء بعث معه قطعة من شمع أو طين مختوما [ ص: 107 ] بخاتمه ، فإذا بعث معه ختما ، فعاد فذكر أنه امتنع ، أو كسر الختم ، بعث إليه عيونا ، فإن امتنع ، أنفذ صاحب المعونة فأحضره ، فإذا حضر وشهد عليه شاهدان بالامتناع ، عزره إن رأى ذلك ، بحسب ما يراه ، تأديبا له إما بالكلام وكشف رأسه ، أو بالضرب أو بالحبس ، فإن اختبأ بعث الحاكم من ينادي على بابه ثلاثا أنه إن لم يحضر سمر بابه ، وختم عليه ، ويجمع أماثل جيرانه ويشهدهم على إعذاره ، فإن لم يحضر ، وسأل المدعي أن يسمر عليه منزله ، ويختم عليه .

                                                                                                                                            وتقرر عند الحاكم أن المنزل منزله ، سمره أو ختمه فإن لم يحضر ، بعث الحاكم من ينادي على بابه بحضرة شاهدي عدل ، أنه إن لم يحضر مع فلان ، أقام عنه وكيلا ، وحكم عليه ، فإن لم يحضر ، أقام عنه وكيلا ، وسمع البينة عليه ، وحكم عليه كما يحكم على الغائب ، وقضى حقه من ماله إن وجد له مالا .

                                                                                                                                            وهذا مذهب الشافعي ، وأبي يوسف ، وأهل البصرة . حكاه عنهم أحمد . وإن لم يجد له مالا ، ولم تكن للمدعي بينة ، فكان أحمد ينكر التهجم عليه ، ويشتد عليه حتى يظهر . وقال الشافعي : إن علم له مكانا ، أمر بالهجوم عليه ، فيبعث خصيانا أو غلمانا لم يبلغوا الحلم ، وثقات من النساء معهم ذوو عدل من الرجال ، فيدخل النساء والصبيان ، فإذا حصلوا في صحن الدار دخل الرجال ، ويؤمر الخصيان بالتفتيش ، ويتفقد النساء النساء ، فإن ظفروا به ، أخذوه فأحضروه .

                                                                                                                                            وإن استعدى على غائب نظرت ; فإن كان الغائب في غير ولاية القاضي ، لم يكن له أن يعدي عليه ، وله الحكم عليه ، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى . وإن كان في ولايته ، وله في بلده خليفة ، فإن كانت له بينة ، ثبت الحق عنده ، وكتب به إلى خليفته ، ولم يحضره ، وإن لم تكن له بينة ، حاضرة ، نفذه إلى خصمه ليخاصمه عند خليفته ، وإن لم يكن له فيه خليفة ، وكان فيه من يصلح للقضاء ، أذن له في الحكم بينهما ، وإن لم يكن فيه من يصلح للقضاء ، قيل له : حرر دعواك ; لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده ، كالشفعة للجار ، وقيمة الكلب ، أو خمر الذمي ، فلا يكلفه الحضور لما لا يقضى عليه به ، مع المشقة فيه ، بخلاف الحاضر ، فإنه لا مشقة في حضوره ، فإذا تحررت ، بعث فأحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت . وبهذا قال الشافعي .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف : إن كان يمكنه أن يحضر ويعود فيأوي إلى موضعه ، أحضره ، وإلا لم يحضره ، ويوجد من يحكم بينهما . وقيل : إن كانت المسافة دون مسافة القصر ، أحضره ، وإلا فلا . ولنا ، أنه لا بد من فصل الخصومة بين المتخاصمين ، فإذا لم يمكن إلا بمشقة ، فعل ذلك كما لو امتنع من الحضور ، فإنه يؤدب ويعزر ، ولأن إلحاق المشقة به أولى من إلحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم بينهما .

                                                                                                                                            وإن كانت امرأة برزة ، لم يشترط في سفرها هذا محرم . نص عليه أحمد ; لأنه لحق آدمي ، وحق الآدمي مبني على الشح والضيق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية