الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 663 ] ثم هنا مسألتان :

                إحداهما : أن العامي يقلد من علم أو ظن أهليته للاجتهاد بطريق ما ، دون من عرفه بالجهل اتفاقا فيهما .

                أما من جهل حاله فلا يقلده أيضا ، خلافا لقوم .

                لنا : غالب الناس غير مجتهد ، فاحتمال الأهلية مرجوح ، ولأن من وجب قبول قوله ، وجب معرفة حاله ، كالنبي بالمعجز ، والشاهد والراوي بالتعديل .

                قالوا : العادة أن من دخل بلدا لا يسأل عن علم من يستفتيه ولا عن عدالته .

                قلنا : العادة ليست حجة على الدليل ، لجواز مخالفتها إياه ، ثم وجوب السؤال عن علمه ملتزم ، والعدالة أصلية في كل مسلم ، بخلاف العلم .

                التالي السابق


                قوله : " ثم هنا " ، أي : في باب التقليد " مسألتان :

                إحداهما : أن العامي يقلد من علم ، أو ظن أهليته للاجتهاد بطريق ما ، دون من عرف بالجهل اتفاقا فيهما " . أي : الحكم في الصورتين إثبات في الأولى ، ونفي في الثانية ، متفق عليه عند من أجاز التقليد للعامي .

                وتحقيق القسمة فيه : أن العامي إذا أراد أن يستفتي شخصا ، فإما أن يعلم ، أو يظن أنه أهل للفتيا ، أو يعلم أنه جاهل لا يصلح لذلك ، أو يجهل حاله ، فلا يعلم أهليته ولا عدمها . فالأول له أن يستفتيه باتفاقهم ، وعلمه بأهليته إما بإخبار عدل عنه بذلك ، أو باشتهاره بين الناس بالفتيا ، أو بانتصابه لها وانقياد [ ص: 664 ] الناس للأخذ عنه ونحو ذلك من الطرق . وهذا معنى قوله : " بطريق ما " ، والظن يقوم مقام العلم في ذلك لما عرف .

                والثاني : وهو من علم أو ظن جهله لا يجوز أن يستفتيه ، لأنه تضييع لأحكام الشريعة ، فهو كالعالم يفتي بغير دليل . أما من جهل حاله ، فلا يقلده أيضا عند الأكثرين ، خلافا لقوم .

                " لنا " على أن لا يقلده وجهان :

                أحدهما : أن " غالب الناس غير مجتهد ، فاحتمال الأهلية مرجوح " .

                يعني أن هذا لما جهل حاله ، احتمل أن يكون أهلا ، وأن لا يكون ، لكن غالب الإنس غير أهل للفتيا ، فحمل هذا على الغالب راجح ، ويلزم منه أن تكون أهليته مرجوحة ، فينتفي ظن أهليته ، فلا يجوز تقليده .

                الوجه الثاني : أن المفتي يجب قبول قوله ، وكل " من وجب قبول قوله ، وجب معرفة حاله " ، كما أن النبي لما وجب قبول قوله ، وجب معرفة حاله وامتحانه بظهور المعجز على يده ، " والشاهد والراوي " لما وجب قبول قولهما ، وجب معرفة حالهما " بالتعديل " .

                قوله : " قالوا " . هذا حجة الخصم على قبول فتيا المجهول الحال . وتقريرها : أن " العادة " جرت بأن " من دخل بلدا لا يسأل عن علم من يستفتيه ولا عدالته " ، والعوائد المشهورة حجة لدلالتها على اتفاق الناس عليها عملا بقوله - عليه السلام - : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن .

                [ ص: 665 ] قوله : " قلنا " هذا جواب ما ذكروه ، وهو أنا لا نسلم أن العادة " حجة على الدليل ، لجواز مخالفتها إياه " ، ومعنى ذلك : أن الدليل قد دل على أن مجهول الحال لا يستفتى كما سبق . وما ذكرتم من العادة ليس حجة على هذا الدليل وكذلك مطلق " العادة ليست حجة على " مطلق " الدليل لجواز " أن تخالفه ، وما خالف الدليل لا يعتبر إلا بدليل ، ثم لا نسلم أن العادة ما ذكرتم ، بل العادة خلافه ، وهو أن من دخل بلدا احتاط لدينه ، ولم يأخذ إلا عن أهله . وإن سلمنا أن ذلك عادة ; لكن لا نسلم شهرتها ، بل هو عادة شذوذ الناس وجهالهم ، وإن سلمنا أنها مشهورة ، لكن لا نسلم أنها تدل على اتفاق عليها حتى تكون حجة .

                قوله : " ثم وجوب السؤال عن علمه ملتزم " ، أي : نلتزم أن من دخل بلدا يجب عليه السؤال عن علم من يستفتيه ، ولا نسلم عدم وجوبه ، وإنما هو شيء استفدتموه من العادة ، وقد بينا بطلانه .

                قوله : " والعدالة أصلية في كل مسلم بخلاف العلم " .

                هذا بيان الفرق بين العدالة والعلم : بأن عدالة المفتي إنما لم يجب السؤال عنها ، لأنها الأصل في كل مسلم بخلاف العلم ، فإنه على العكس من ذلك ، وهو أن عدمه أصلي في كل أحد ، فلذلك أوجبنا السؤال عن علم المفتي دون عدالته ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




                الخدمات العلمية