الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8272 ) مسألة ; قال : ( ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه ، والمجلس ، والخطاب ) وجملته ، أن على القاضي العدل بين الخصمين في كل شيء ، من المجلس ، والخطاب واللحظ واللفظ والدخول عليه ، والإنصات إليهما ، والاستماع منهما . وهذا قول شريح وأبي حنيفة ، والشافعي . ولا أعلم فيه مخالفا .

                                                                                                                                            [ ص: 120 ] وقد روى عمر بن شبة ، في كتاب " قضاة البصرة " بإسناده عن أم سلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من بلي بالقضاء بين المسلمين ، فليعدل بينهم في لفظه ، وإشارته ، ومقعده ، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر . وفي رواية : فليسو بينهم ; في النظر ، والمجلس ، والإشارة }

                                                                                                                                            وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي : سو بين الناس في مجلسك وعدلك ، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ، ولا يطمع شريف في حيفك . وقال سعيد ، ثنا هشيم ، ثنا سيار ثنا الشعبي ، قال : كان بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي بن كعب بدار في شيء ، فجعلا بينهما زيد بن ثابت ، فأتياه في منزله ، فقال له عمر : أتيناك لتحكم بيننا ، في بيته يؤتى الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه ، فقال : هاهنا يا أمير المؤمنين . فقال له عمر : جرت في أول القضاء ، ولكن أجلس مع خصمي . فجلسا بين يديه ، فادعى أبي وأنكر عمر ، فقال زيد لأبي ، أعف أمير المؤمنين من اليمين ، وما كنت لأسألها لأحد غيره . فحلف عمر ، ثم أقسم : لا يدرك زيد باب القضاء ، حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء

                                                                                                                                            ورواه عمر بن شبة ، وفيه : فلما أتيا باب زيد ، خرج فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إلي لأتيتك . قال : في بيته يؤتى الحكم . فلما دخلا عليه ، قال : هاهنا يا أمير المؤمنين . قال : بل أجلس مع خصمي . فادعى أبي وأنكر عمر ، ولم تكن لأبي ، بينة ، فقال زيد : أعف أمير المؤمنين من اليمين .

                                                                                                                                            فقال عمر : تالله إن زلت ظالما ، السلام عليك يا أمير المؤمنين . هاهنا يا أمير المؤمنين . أعف أمير المؤمنين . إن كان لي حق استحققته بيميني ، وإلا تركته ، والله الذي لا إله إلا هو ، إن النخل لنخلي ، وما لأبي فيها حق . ثم أقسم عمر : لا يصيب زيد وجه القضاء حتى يكون عمر وغيره من الناس عنده سواء . فلما خرجا وهب النخل لأبي ، فقيل له : يا أمير ، المؤمنين ، فهلا كان هذا قبل أن تحلف ؟ قال : خفت أن أترك اليمين ، فتصير سنة ، فلا يحلف الناس على حقوقهم .

                                                                                                                                            وقال إبراهيم : جاء رجل إلى شريح ، وعنده السري بن وقاص ، فقال الرجل لشريح : أعني على هذا الجالس عندك . فقال شريح للسري : قم فاجلس مع خصمك . قال : إني أسمعك من مكاني . قال : لا قم فاجلس مع خصمك . فأبى أن يسمع منه حتى أجلسه مع خصمه . وفي رواية قال إن مجلسك يريبه ، وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر .

                                                                                                                                            ولما تحاكم علي رضي الله عنه واليهودي إلى شريح ، قال علي إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولأن الحاكم إذا ميز أحد الخصمين على الآخر حصر ، وانكسر قلبه وربما لم تقم حجته ، فأدى ذلك إلى ظلمة .

                                                                                                                                            وإن أذن أحد الخصمين للحاكم في رفع الخصم الآخر عليه في المجلس ، جاز ; لأن الحق له ، ولا ينكسر قلبه إذا كان هو الذي رفعه . والسنة أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود . وقال علي رضي الله عنه : لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك . ولأن ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما ، والإقبال عليهما ، والنظر في خصومتهما .

                                                                                                                                            وإن كان الخصمان ذميين ، سوى بينهما أيضا ; لاستوائهما في دينهما ، وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا ، جاز رفع المسلم عليه ، لما روى إبراهيم التيمي ، قال : وجد [ ص: 121 ] علي ، كرم الله وجهه ، درعه مع يهودي ، فقال : درعي ، سقطت وقت كذا وكذا . فقال اليهودي : درعي ، وفي يدي ، بيني وبينك قاضي المسلمين ، فارتفعا إلى شريح ، فلما رآه شريح قام من مجلسه ، وأجلسه في موضعه ، وجلس مع اليهودي بين يديه فقال علي : إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { لا تساووهم في المجالس } ذكره : أبو نعيم ، في الحلية . ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه ، إما أن يضيفهما معا أو يدعهما .

                                                                                                                                            وقد روي عن علي ، كرم الله وجهه ، أنه نزل به رجل ، فقال له : إنك خصم ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                            قال : تحل عنا ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { : لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه } . ولأن ذلك يوهم الخصم ميل الحاكم إلى من أضافه . ولا يلقن أحدهما حجته ، ولا ما فيه ضرر على خصمه ، مثل أن يريد أحدهما الإقرار ، فيلقنه الإنكار ، أو اليمين فيلقنه النكول ، أو النكول ، فيجزئه على اليمين ، أو يحس من الشاهد بالتوقف ، فيجسره على الشهادة ، أو يكون مقدما على الشهادة ، فيوقفه عنها ، أو يقول لأحدهما وحده : تكلم .

                                                                                                                                            ونحو هذا مما فيه إضرار بخصمه ; لأن عليه العدل بينهما . فإن قيل : فقد لقن النبي صلى الله عليه وسلم السارق ، فقال : " ما أخالك سرقت " . وقال عمر لزياد : أرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلنا : لا يرد هذا الإلزام هاهنا ; فإن هذا في حقوق الله وحدوده ، ولا خصم للمقر ، ولا للمشهود عليه ، فليس في تلقينه حيف على أحد الخصمين ، ولا ترك للعدل في أحد الجانبين ، والذي قلنا في المختلفين في حق من حقوق الآدميين . ولا ينبغي أن يعنت الشاهد ، ولا يداخله في كلامه ، ويعنفه في ألفاظه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية