الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 666 ] الثانية : يكفي المقلد سؤال بعض مجتهدي البلد ، وفي وجوب تخير الأفضل قولان :

                النافي : إجماع الصحابة على تسويغ سؤال مقلديهم الفاضل والمفضول لأن الفضل قدر مشترك ، ولا عبرة بخاصة الأفضلية .

                المثبت : الظن الحاصل من قول الأفضل أغلب ، فإن سألهما واختلفا عليه فهل يلزمه متابعة الأفضل في دينه وعلمه كالمجتهد يتعارض عنده الدليلان ، أو يتخير ؟ فيه خلاف ، الظاهر الأول ، ويعرف الأفضل بالإخبار وإذعان المفضول له وتقديمه ، ونحوه من الأمارات المفيدة للظن ، فإن استويا عنده اتبع أيهما شاء .

                وقيل : الأشد ، إذ الحق ثقيل مري ، والباطل خفيف وبي .

                وقيل الأخف ، لقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر وما جعل عليكم في الدين من حرج ، لا ضرر ، بعثت بالحنيفية السمحة السهلة .

                ويحتمل أن يسقطا لتعارضهما ، ويرجع إلى غيرهما إن وجد ، وإلا فإلى ما قبل السمع .

                التالي السابق


                المسألة " الثانية : يكفي المقلد سؤال بعض مجتهدي البلد " يعني من شاء منهم ، ولا يلزمه سؤال جميعهم . " وفي وجوب تخير الأفضل " . أي : هل يجب عليه أن يتخير أفضل المجتهدين فيستفتيه ؟ فيه " قولان " : بالنفي والإثبات " النافي " ، أي : احتج النافي لوجوب تخير الأفضل بوجهين : أحدهما : [ ص: 667 ] أن الصحابة أجمعوا " على تسويغ سؤال مقلديهم الفاضل والمفضول " ، أي : أجمعوا على أن للمستفتي أن يقلد فاضلهم ومفضولهم ، وذلك ينفي وجوب تخير الأفضل وإلا كان إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - خطأ وهو باطل .

                الوجه الثاني : " أن الفضل قدر مشترك " بين الفاضل والأفضل ، فليكف في جواز التقليد " ولا عبرة بخاصة الأفضلية " .

                قلت : ولأن الناس متفاوتون في رتبة الفضائل ، فما من فاضل إلا وثم من هو أفضل منه بدليل قوله - عز وجل - : وفوق كل ذي علم عليم [ يوسف : 76 ] ، فلو اعتبر الأفضل ، لانسد باب التقليد . ولقائل أن يقول : إنما يلزم ذلك إذا اعتبرنا أفضل المجتهدين مطلقا ، أما إذا قيدنا ذلك بمجتهدي البلد ، لم يلزم ، لأن الفاضل في كل بلد معروف مشهور مشار إليه بالأصابع .

                قوله : " المثبت " ، أي : احتج المثبت لوجوب تخير الأفضل بأن " الظن الحاصل من قول الأفضل أغلب " ، فيكون واجبا ، أما الأولى ، فظاهرة ، وأما الثانية ، فبناء على أن الأصل اعتبار العلم ، وإنما سقط في الشرعيات لتعذره ، فوجب الظن الأقرب إلى العلم كما سبق .

                قلت : القولان متقاربان ، والأول أيسر ، والثاني أحوط .

                قوله : " فإن سألهما واختلفا عليه " ، إلى آخره . أي : إن سأل المستفتي مجتهدين ، فأكثر ، فاختلفوا عليه في الجواب ، " فهل يلزمه متابعة [ ص: 668 ] الأفضل " منهم " في دينه وعلمه " ، " أو يتخير " فيأخذ بقول من شاء منهم ؟ " فيه خلاف " .

                وجه اللزوم : أنه قد تعارض عند المستفتي قولان ، وأحدهما خطأ ، وليس أحدهما أولى بالرجحان لذاته ، فلزمه ترجيح أحد القولين برجحان أحد القائلين ، " كالمجتهد " إذا تعارض عنده دليلان ، استعمل الترجيح فيهما ، فأخذ بالأرجح منهما ، إذ قول المجتهد عند المقلد ، كقول الشارع عند المجتهد .

                وجه التخيير : ما سبق من إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على تسويغ سؤال المقلد من شاء من المجتهدين ، ولأن العامي لا يعلم الأفضل بالحقيقة ، إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه ، بل العامي يغتر بظواهر هيئة حسنة ، وطيلسان ، فربما اعتقد المفضول فاضلا .

                قوله : " الظاهر الأول " ، أي : وجوب متابعة الأفضل ، لأن العامي وإن لم يكن أهلا لمعرفة الفاضل من المفضول ، لكن يكلف من ذلك وسعه بحسب اجتهاده ، كالمجتهد في الأدلة ، والخطأ بعد الاجتهاد مغتفر ، وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - محمول على ما إذا لم يختلف الجواب على المستفتي ، بل إذا جاء يستفتي ابتداء . أما عند الاختلاف ، فيجب تخير الأفضل . ولذلك قال الخرقي : وإذا اختلف اجتهاد رجلين ، لم يتبع أحدهما صاحبه ، ويتبع الأعمى أوثقهما في نفسه .

                قوله : " ويعرف الأفضل " ، إلى آخره .

                لما رجح وجوب تخير الأفضل احتاج أن يبين طرق معرفته ، وهي : إما إخبار العدل ، لأنه يفيد ظن أفضليته ، وهو كاف ، أو بإذعان " المفضول له وتقديمه " على نفسه في الأمور الدينية ، كالتلميذ مع شيخه لأنه يفيد القطع [ ص: 669 ] بها عادة ، أو بأمارات غير ذلك مما يفيد القطع ، أو الظن بذلك .

                قوله : " فإن استويا عنده " ، أي : إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة ، واختلفا عليه في الجواب ، ففيه ثلاثة أقوال :

                أحدها : يتبع " أيهما شاء " مخيرا لعدم المرجح .

                الثاني : يأخذ بأشد القولين ، لأن " الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي " ، كما يروى في الأثر . وفي الحكمة : إذا ترددت بين أمرين ، فاجتنب أقربهما من هواك .

                وروى الترمذي من حديث عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما وفي لفظ : أرشدهما . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ورواه أيضا النسائي وابن ماجه . فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد .

                الثالث : يأخذ بأخف القولين لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة ، كقوله - عز وجل - : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ ص: 670 ] [ البقرة : 185 ] ، وقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا ضرر ولا ضرار ، وقوله - عليه السلام - : بعثت بالحنيفية السمحة السهلة .

                وقال شيخنا المزني : من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه . أو كما قال .

                قلت : وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .

                قلت : والفرق بينه وبين عمار فيما حكينا عنه من الأخذ بأشد الأمور : أن عمارا كان مكلفا محتاطا لنفسه ودينه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشرعا موسعا على الناس ، لئلا يحرجوا فينفروا ، كما صح أنه جمع بين الصلاتين بالمدينة من غير خوف ولا سفر لئلا يحرج أمته . وقال : يسروا ولا تعسروا وقال لبعض [ ص: 671 ] أصحابه في سياق الإنكار عليه : إن فيكم منكرين منفرين .

                قوله : " ويحتمل أن يسقطا " - يعني قولا المجتهدين إذا اختلفا يسقطان - لتعارضهما ، وعدم المرجح لأحدهما ، " ويرجع " المقلد " إلى غيرهما " من أقوال المجتهدين " إن وجد " غيرهما ، وإن لم يجد غيرهما ، رجع إلى " ما قبل السمع " ، وفيه الأقوال السابق ذكرها .

                تنبيه : إذا اختلف على المقلد جواب المجتهدين ، وقلنا : يرجع إلى قول غيرهما ، فذلك الغير إن أفتاه بقول ثالث غير قوليهما ، مثل أن أفتاه أحدهما بأن الماء المستعمل في رفع الحدث طاهر ، وأفتاه الآخر أنه طهور ، فأفتاه الثالث بأنه نجس ; رجع إليه ، وكان مستند العمل قوله .

                وإن أفتاه بأحد قولي الأولين بكماله أو بجزئه ، بأن فصل له ما أطلقاه مثل أن أفتاه أحدهما بأن الخمر لا تطهر ، وإن خللت بنقلها عن الشمس إلى الظل طهرت ، فهل تكون فتياه مستقلة باستناد عمل المقلد إليها ، أو تكون مؤكدة لما وافقها من فتيا المجتهدين الأولين ؟ فيه احتمالان : أصلهما تعارض التأكيد والتأسيس في الأدلة ، والتأسيس أولى ، فيترجح الاحتمال الأول ، وقد يرجح الثاني بأن الأصل وجوب العمل بقول أحد المجتهدين الأولين ، لكن [ ص: 672 ] سقط العمل به لعارض التعارض ، وبفتيا الثالث موافقا لأحدهما زال التعارض ، وظهر رجحان قوله ، فوجب أن يكون هو العمدة في العمل ، وقول المفتي الثالث مؤكدا له .

                وتظهر فائدة هذا الخلاف فيما إذا عمل بفتياهما ، ثم تبين أنهما ليسا أهلا للفتيا ، وتضمن العمل بالفتيا ما يوجب الضمان ، فإن الضمان يجب على المفتي إذا لم يكن أهلا للفتيا ، فإن جعلنا عمدة العمل فتيا الثالث استقل بالضمان كما استقل قوله بالعمل ، وإن جعلنا عمدته فتيا أحد الأولين وفتيا الثالث مرجحة ; كان الضمان عليهما جميعا ، والأشبه أنه عليهما نصفين لاشتراكهما في سبب الإتلاف ، ويحتمل أن يكون أثلاثا على الثالث ثلاثة حطا لرتبة المرجح عن رتبة الأصل المعتمد عليه . وضبطنا ذلك بالثلاث لاعتبار الشرع له كثيرا ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية