الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 673 ] القول في ترتيب الأدلة والترجيح

                الترتيب : جعل كل واحد من شيئين فصاعدا في رتبته التي يستحقها بوجه ما ، فالإجماع مقدم على باقي أدلة الشرع ، لقطعيته وعصمته وأمنه من نسخ ، أو تأويل ، ثم الكتاب ، ويساويه متواتر السنة لقطعيتهما ، ثم خبر الواحد ، ثم القياس ، والتصرف في الأدلة من حيث العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، ونحوه سبق .

                والترجيح : تقديم أحد طريقي الحكم لاختصاصه بقوة في الدلالة ، ورجحان الدليل عبارة عن كون الظن المستفاد منه أقوى ، والرجحان حقيقة في الأعيان الجوهرية ، وهو في المعاني مستعار .

                التالي السابق


                " القول في ترتيب الأدلة والترجيح "

                اعلم أن هذا من موضوع نظر المجتهد وضروراته ، لأن الأدلة الشرعية متفاوتة في مراتب القوة ، فيحتاج المجتهد إلى معرفة ما يقدم منها وما يؤخر ، لئلا يأخذ بالأضعف منها مع وجود الأقوى ، فيكون كالمتيمم مع وجود الماء .

                وقد يعرض للأدلة التعارض والتكافؤ ، فتصير بذلك كالمعدومة ، فيحتاج إلى إظهار بعضها بالترجيح ليعمل به ، وإلا تعطلت الأدلة والأحكام .

                فهذا الباب مما يتوقف عليه الاجتهاد توقف الشيء على جزئه ، أو شرطه .

                قوله : " الترتيب : جعل كل واحد من شيئين فصاعدا في رتبته التي يستحقها بوجه ما " ، أي : بوجه من الوجوه .

                [ ص: 674 ] اعلم أنه لما كان هذا الباب معقودا لترتيب الأدلة وترجيحها ، وجب الكشف عن حقيقة الترتيب والترجيح ما هي ، لأنهما شرطان في الاجتهاد ، والحكم عليهما بالشرطية يستدعي سبق تصور ماهيتهما ، إذ التصديق أبدا مسبوق بالتصور . ولما كان الترتيب مصدر رتب يرتب ترتيبا ; عرفناه بمصدر مثله وهو الجعل .

                قوله : " جعل كل واحد من شيئين فصاعدا " ، لأن الترتيب قد يكون في شيئين ، وقد يكون في أشياء كثيرة كجماعة رجال متفاوتين في الأقدار يجلس كل منهم حيث يستحق بالنسبة إلى أصحابه .

                قوله : " في رتبته " ، أي : في موضعه أو منزلته " التي يستحقها " ، أي : يستحق جعله فيها بوجه من الوجوه ، لأن أسباب الترتيب والتفاوت في المراتب متعددة ، فقد يستحق الشيء التقديم من جهة قوته أو قربه أو حسنه أو خاصية فيه . وقد يستحق الإنسان التقديم تارة لشجاعته ، وتارة لعلمه ، وتارة لجاهه ، وتارة لدينه ، وتارة لجماله ، وغير ذلك من الجهات . وقد ذكر الفقهاء ترتيب الأقارب في نفقاتهم وفطرتهم وولايتهم في النكاح وإرثهم باعتبار القرب والقوة على ما فصل في الفقه .

                قوله : " فالإجماع مقدم على باقي أدلة الشرع " .

                قد سبق أن أدلة الشرع الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وغيره من الأصول المختلف فيها مما ذكرناه أو لم نذكره ، والإجماع مقدم عليها جميعا لوجهين : [ ص: 675 ] أحدهما : كونه قاطعا معصوما من الخطأ بشهادة المعصوم له بذلك كما سبق في بابه ، بخلاف باقي الأدلة .

                الثاني : كونه آمنا من النسخ والتأويل بخلاف باقي الأدلة ، فإن النسخ يلحقها والتأويل يتجه عليها . وقد سبق الدليل على أن النسخ لا يلحق الإجماع . وأما التأويل فإنه لا يلحق إلا ما كانت دلالته ظاهرة والإجماع قاطع فصار في عدم لحوق التأويل له كالنصوص في مدلولها لا تقبل التأويل .

                فإن قيل : قد ذكرتم في مسألة أن المباح غير مأمور : أن الكعبي تأول الإجماع على ما ذكر هناك .

                قلنا : حيث أضيف التأويل إلى الإجماع ، فإنما يرد على مورد الإجماع لا على ذات الإجماع ، والفرق بينهما ظاهر .

                قوله : " ثم الكتاب ، ويساويه متواتر السنة لقطعيتهما " أي : ثم الكتاب مقدم في الدلالة بعد الإجماع ، ويساوي الكتاب في ذلك متواتر السنة ، لأنهما جميعا قاطعان من جهة المتن . ولذلك جاز نسخ كل واحد منهما بالآخر .

                قوله : " ثم خبر الواحد " . يعني هو مقدم بعد الكتاب والسنة المتواترة ، " ثم القياس بعد خبر الواحد .

                قوله : " والتصرف في الأدلة من حيث العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحوه " من حمل المجمل على المبين ، وأشباه ذلك " سبق " في أبوابه .

                والغرض من هذا الكلام أن المجتهد له وظائف ، وهي ترتيب الأدلة والتصرف فيها ، وترجيح بعضها على بعض عند التعارض ، وهذا نوع من [ ص: 676 ] التصرف فيها .

                أما الترتيب ، فقد بينا أن المقدم من الأدلة الإجماع ، ثم الكتاب ثم متواتر السنة ، ثم خبر الواحد ، ثم القياس ، ثم باقي الأدلة على مراتبها في نظر المجتهد .

                وأما التصرف فيها كحمل العام على الخاص ، والمطلق على المقيد ، والمجمل على المبين ، ونحو ذلك ; فقد ذكر في أبوابه ، وسمي هذا تصرفا ، لأن التصرف هو التنقل في الأزمنة والأحوال ، وهذا تنقل في أحوال الأدلة من حال إلى حال .

                وأما الترجيح فنحن الآن ذاكروه إن شاء الله تعالى .

                قوله : " والترجيح : تقديم أحد طريقي الحكم لاختصاصه بقوة في الدلالة ، ورجحان الدليل عبارة عن كون الظن المستفاد منه أقوى " .



                اعلم أن الترجيح والرجحان قد يلتبسان . وقد أشرت إلى الفرق بينهما بتمييز كل واحد منهما منه برسم .

                فالترجيح : فعل المرجح الناظر في الدليل ، وهو تقديم أحد الطريقين الصالحين للإفضاء إلى معرفة الحكم لاختصاص ذلك الطريق بقوة في الدلالة ، كما إذا تعارض الكتاب والإجماع في حكم ، والعام والخاص ، أو قياس العلة والشبه ، فكل واحد منهما طريق يصلح لأن يعرف به الحكم ، لكن الإجماع اختص بقوة على الكتاب من حيث الدلالة . وكذا الخاص على العام ، وقياس العلة على الشبه مقدم لذلك .

                والرجحان صفة قائمة بالدليل ، أو مضافة إليه ، وهي كون الظن المستفاد [ ص: 677 ] منه أقوى من غيره ، كالمستفاد من قياس العلة بالنسبة إلى قياس الشبه ، ومن الخاص بالنسبة إلى العام ، فالترجيح فعل المرجح ، والرجحان صفة الدليل . ويظهر لك الفرق بينهما أيضا من جهة التصريف اللفظي ، فإنك تقول : رجحت الدليل ترجيحا ، فأنا مرجح ، والدليل مرجح - بفتح الجيم - وتقول : رجح الدليل رجحانا فهو راجح . ألا ترى أنك أسندت الترجيح إلى نفسك إسناد الفعل إلى الفاعل ، وأسندت الرجحان إلى الدليل ; كذلك كان الترجيح وصف المستدل ، والرجحان وصف الدليل . فهذه الطريقة التصريفية مفيدة في معرفة رسوم بعض الأشياء . ولما أهملها أو سها عنها بعض المتأخرين وهم في الفرق بين دلالة اللفظ والدلالة باللفظ . والفرق بينهما : أن دلالة اللفظ صفة له وهي كونه حيث يفيد مراد المتكلم به ، أو إفادته مراد المتكلم ، كأن يقول : عجبت من دلالة اللفظ ، ومن : إن دل اللفظ ، فإذا فسرتها بأن والفعل اللذين ينحل إليهما المصدر ، كان الفعل مسندا إلى اللفظ إسناد الفاعلية ، والدلالة باللفظ صفة للمتكلم وفعله ، وهي إفادة المتكلم من اللفظ ما أراد منه ، لأنك تقول : عجبت من دلالة فلان بلفظه ، ومن أن دل فلان بلفظه على كذا ، فيسند ذلك إلى فلان وهو المتكلم لا إلى اللفظ ، فافهم هذا .

                قوله : " والرجحان حقيقة في الأعيان الجوهرية وهو في المعاني مستعار " .

                يعني أن استعمال الرجحان حقيقة إنما هو في الجواهر والأجسام ، نحو : [ ص: 678 ] هذا الدينار أو الدرهم راجح على هذا ، لأن الرجحان من آثار الثقل والاعتماد ، وهو من خواص الجواهر .

                أما استعماله في المعاني ، نحو : هذا الدليل ، أو المذهب راجح على هذا ، وهذا الرأي أرجح من ذاك ، فهو مجاز على جهة الاستعارة من رجحان الأجسام .




                الخدمات العلمية