الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8333 ) مسألة ; قال : ( ولا يقبل فيما سوى الأموال ، مما يطلع عليه الرجال ، أقل من رجلين ) وهذا القسم نوعان ; أحدهما ، العقوبات ، وهي الحدود والقصاص فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين ، إلا ما روي عن عطاء ، وحماد ، أنهما قالا : يقبل فيه رجل وامرأتان ; قياسا على الشهادة في الأموال .

                                                                                                                                            ولنا ، أن هذا مما يحتاط لدرئه وإسقاطه ، ولهذا يندرئ بالشبهات ، ولا تدعو الحاجة إلى إثباته ، وفي شهادة النساء شبهة ، بدليل قوله تعالى : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } . وأنه لا تقبل شهادتهن وإن كثرن ، ما لم يكن معهن رجل ، فوجب أن لا تقبل شهادتهن فيه . ولا يصح قياس هذا على المال ، لما ذكرنا من الفرق . وبهذا الذي ذكرنا قال سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، وحماد ، والزهري ، وربيعة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                            واتفق هؤلاء وغيرهم على أنها تثبت بشهادة رجلين ، ما خلا الزنى ، إلا الحسن ; فإنه قال : الشهادة على القتل ، كالشهادة على الزنى ; لأنه يتعلق به إتلاف النفس ، فأشبه الزنى . ولنا ، أنه أحد نوعي القصاص ، فأشبه القصاص في الطرف ، وما ذكره من الوصف لا أثر له ، فإن الزنى الموجب للحد لا يثبت إلا بأربعة ، ولأن حد الزنى حق لله تعالى يقبل الرجوع عن الإقرار به . ويعتبر في شهداء هذا النوع من الحرية والذكورية والإسلام والعدالة ، ما يعتبر في شهداء الزنى ، على ما سنذكره ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                            الثاني ، ما ليس بعقوبة كالنكاح ، والرجعة ، والطلاق ، والعتاق ، والإيلاء ، والظهار ، والنسب ، والتوكيل ، والوصية إليه ، والولاء ، والكتابة ، وأشباه هذا . فقال القاضي : المعول عليه في المذهب ، أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين ، ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال . وقد نص أحمد في رواية الجماعة ، على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق . وقد نقل عن أحمد ، في الوكالة : إن كانت بمطالبة دين - يعني تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين - فأما غير ذلك فلا .

                                                                                                                                            ووجه ذلك ; أن الوكالة في اقتضاء الدين يقصد منها المال ، فيقبل فيما شهادة رجل وامرأتين ، كالحوالة . قال القاضي : فيخرج من هذا ، أن النكاح وحقوقه ، من الرجعة وشبهها ، لا تقبل فيها شهادة النساء رواية واحدة ، وما عداه يخرج على روايتين . وقال أبو الخطاب : يخرج في النكاح والعتاق أيضا روايتان ; إحداهما ، لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين . وهو قول النخعي ، والزهري ، ومالك ، وأهل المدينة ، والشافعي . وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن ، وربيعة ، في الطلاق . والثانية ، تقبل فيه شهادة رجلين وامرأتين . روي ذلك عن جابر بن زيد ، وإياس بن معاوية ، والشعبي ، والثوري ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                            وروي ذلك في النكاح عن عطاء واحتجوا بأنه لا [ ص: 157 ] يسقط بالشبهة ، فيثبت برجل وامرأتين ، كالمال . ولنا ، أنه ليس بمال ، ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال ، فلم يكن للنساء في شهادته مدخل ، كالحدود والقصاص . وما ذكروه لا يصح ; فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح ، وإن تصور بأن تكون المرأة مرتابة بالحمل ، لم يصح النكاح . ( 8334 ) فصل : وقد نقل عن أحمد رضي الله عنه في الإعسار ما يدل على أنه لا يثبت إلا بثلاثة ; لحديث قبيصة بن المخارق : { حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، لقد أصابت فلانا فاقة } .

                                                                                                                                            قال أحمد : هكذا جاء الحديث . فظاهر هذا أنه أخذ به . وروي عنه ، أنه لا يقبل قوله إنه وصى ، حتى يشهد له رجلان ، أو رجل عدل . فظاهر هذا أنه يقبل في الوصية شهادة رجل واحد . وقال في الرجل : يوصي ولا يحضره إلا النساء . قال : أجيز شهادة النساء . فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد ، إذا لم يحضره الرجال . قال القاضي : والمذهب أن هذا كله لا يثبت إلا بشاهدين ، وحديث قبيصة في حل المسألة ، لا في الإعسار . ( 8335 ) فصل : ولا يثبت شيء من هذين النوعين بشاهد ويمين المدعي ; لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين ، فلئلا يثبت بشهادة واحد ويمين أولى . قال أحمد ، ومالك ، في الشاهد واليمين : إنما يكون ذلك في الأموال خاصة ، لا يقع في حد ، ولا نكاح ، ولا طلاق ، ولا عتاقة ، ولا سرقة ، ولا قتل .

                                                                                                                                            وقد قال الخرقي : إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه ، وأتى بشاهد ، حلف مع شاهده ، وصار حرا . ونص عليه أحمد . وقال في شريكين في عبد ، ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه ، وكانا معسرين عدلين : فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا ، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا . فيخرج مثل هذا في الكتابة ، والولاء ، والوصية ، الوديعة ، والوكالة ، فيكون في الجميع روايتان ، ما خلا العقوبات البدنية ، والنكاح ، وحقوقه ، فإنها لا تثبت إلا بشاهد ويمين ، قولا واحدا . قال القاضي : المعمول عليه في جميع ما ذكرناه ، أنه لا يثبت إلا بشاهدين . وهو قول الشافعي .

                                                                                                                                            وروى الدارقطني ، بإسناده عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد ، فأشار علي في الأموال ، لا تعد ذلك } . وقال عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه قضى بالشاهد واليمين ؟ } قال : نعم في الأموال . وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره . رواه الإمام أحمد ، وغيره ، بإسنادهم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية