الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 299 ] فصل

قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزا من القول ، رجونا أن يكفي ، وأملنا أن يقنع . والكلام في أوصافه - إن استقصي - بعيد الأطراف ، واسع الأكناف ؛ لعلو شأنه ، وشريف مكانه .

والذي سطرناه في الكتاب ، وإن كان موجزا ، وما أملينا فيه ، وإن كان خفيفا - فإنه ينبه على الطريقة ، ويدل على الوجه ، ويهدي إلى الحجة .

ومتى عظم محل الشيء فقد يكون الإسهاب فيه عيا ، والإكثار في وصفه تقصيرا .

وقد قال الحكيم وقد سئل عن البليغ : متى يكون عييا ؟ فقال : متى وصف هوى أو حبيبا .

وضل أعرابي في سفر له ليلا ، وطلع القمر فاهتدى به ، فقال : ما أقول لك ؟ أقول : رفعك الله ؟ وقد رفعك ، أم أقول : نورك الله ؟ وقد نورك ، أم أقول : جملك الله ؟ وقد جملك !

ولولا أن العقول تختلف ، والأفهام تتباين ، والمعارف تتفاضل - لم نحتج إلى ما تكلفنا ، ولكن الناس يتفاوتون في المعرفة ، ولو اتفقوا فيها لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن ، أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم ؛ لاتصاله بأسباب خفية وتعلقه بعلوم غامضة الغور ، عميقة القعر ، كثيرة المذاهب ، قليلة الطلاب ، ضعيفة الأصحاب ، وبحسب تأتي مواقعه تقع الأفهام دونه ، وعلى قدر لطف مسالكه يكون القصور عنه .

أنشدني أبو القاسم الزعفراني ، قال : أنشدني المتنبي لنفسه القطعة التي يقول فيها :

[ ص: 300 ]

وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم     ولكن تأخذ الآذان منه
على قدر القرائح والعلوم



وأنشدني الحسن بن عبد الله ، قال : أنشدنا بعض مشايخنا للبحتري :


أهز بالشعر أقواما ذوي سنة     لو أنهم ضربوا بالسيف ما شعروا
علي نحت القوافي من مقاطعها     وما علي لهم أن تفهم البقر



فإذا كان نقد الكلام كله صعبا ، وتمييزه شديدا ، والوقوع على اختلاف فنونه متعذرا ؛ وهذا في كلام الآدميين - فما ظنك بكلام رب العالمين ؟ ! * * *

قد أبنا لك أن من قدر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام ، لا يعرف من البلاغة إلا القليل ، ولا يفطن منها إلا لليسير .

ومن زعم أن البديع يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم في الشعر ، فهو متطرف .

بلى ، إن كانوا يقولون : إن هذه من وجوه البلاغة وغرر البديع وأصول اللطيف ، وإن ما يجري مجرى ذلك ويشاكله ملحق بالأصل ، ومردود على القاعدة - فهذا قريب .

وقد بينا في نظم القرآن : أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة ، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف .

ثم الفواتح والخواتم ، والمبادئ والمثاني ، والطوالع والمقاطع ، والوسائط والفواصل .

[ ص: 301 ] ثم الكلام في نظم السور والآيات ، ثم في تفاصيل التفاصيل ، ثم في الكثير والقليل .

ثم الكلام الموشح والمرصع ، والمفصل والمصرع ، والمجنس والموشع ، والمحلى والمكلل ، والمطوق والمتوج ، والموزون والخارج عن الوزن ، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه .

ثم الخروج من فصل إلى فصل ، ووصل إلى وصل ، ومعنى إلى معنى ، ومعنى في معنى ؛ والجمع بين المؤتلف والمختلف ، والمتفق والمتسق .

وكثرة التصرف ، وسلامة القول في ذلك كله من التعسف ، وخروجه عن التعمق والتشدق ، وبعده عن التعمل والتكلف ، والألفاظ المفردة ، والإبداع في الحروف والأدوات ، كالإبداع في المعاني والكلمات . والبسط والقبض ، والبناء والنقض ، والاختصار والشرح ، والتشبيه والوصف .

وتمييز الابتداع من الاتباع ، كتميز المطبوع عن المصنوع ، والقول الواقع عن غير تكلف ولا تعمل .

* * *

وأنت تتبين في كل ما تصرف فيه من الأنواع أنه على سمت شريف ، ومرقب منيف ، يبهر إذا أخذ في النوع الربي ، والأمر الشرعي ، والكلام الإلهي ، الدال على أنه يصدر عن عزة الملكوت ، وشرف الجبروت ، وما لا يبلغ الوهم مواقعه : من حكمة وأحكام ، واحتجاج وتقرير ، واستشهاد وتقريع ، وإعذار وإنذار ، وتبشير وتحذير ، وتنبيه وتلويح ، وإشباع وتصريح ، وإشارة ودلالة ، وتعليم أخلاق زكية ، وأسباب رضية ، وسياسات [ ص: 302 ] جامعة ، ومواعظ نافعة ، وأوامر صادعة ، وقصص مفيدة ، وثناء على الله - عز وجل - بما هو أهله ، وأوصاف كما يستحقه ، وتحميد كما يستوجبه ، وأخبار عن كائنات في التأتي صدقت ، وأحاديث عن المؤتنف تحققت ، ونواه زاجرة عن القبائح والفواحش ، وإباحة الطيبات ، وتحريم المضار والخبائث ، وحث على الجميل والإحسان .

تجد فيه الحكمة وفصل الخطاب ، مجلوة عليك في منظر بهيج ، ونظم أنيق ، ومعرض رشيق ، غير معتاص على الأسماع ولا متلو على الأفهام ، ولا مستكره في اللفظ ، ولا مستوحش في المنظر . غريب في الجنس غير غريب في القبيل ، ممتلئ ماء ونضارة ، ولطفا وغضارة ، يسري في القلب كما يسري السرور ، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم ، ويضيء كما يضيء الفجر ، ويزخر كما يزخر البحر ، طموح العباب ، جموح على المتناول المنتاب ، كالروح في البدن ، والنور المستطير في الأفق ، والغيث الشامل ، والضياء الباهر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

من توهم أن الشعر يلحظ شأوه بان ضلاله ، ووضح جهله ، إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن ، وتداولته القلوب ، وانثالت عليه الهواجس ، وضرب الشيطان فيه بسهمه ، وأخذ منه بحظه . وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلا ، وأقرب مأخذا ، وأسهل مطلبا ، ولذلك قالوا : فلان مفحم ، فأخرجوه مخرج العيب ، كما قالوا : فلان عيي ، فأوردوه مورد النقص .

* * *

والقرآن كتاب دل على صدق متحمله ، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها ، وبرهان شهد له برهان الأنبياء المتقدمين ، وبينة على طريقة من [ ص: 303 ] سلف من الأولين . حيرهم فيه ، إذ كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية ، وبلغوا فيه الغاية ؛ فعرفوا عجزهم ، كما عرف قوم عيسى نقصانهم فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج ، والوصول إلى أعلى مراتب الطب ، فجاءهم بما بهرهم : من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وكما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما دققوا فيه من سحرهم ، وأتت على ما أجمعوا عليه من أمرهم ، وكما سخر لسليمان الريح والطير والجن . حين كانوا يولعون به من فائق الصنعة ، وبدائع اللطف . ثم كانت هذه المعجزة مما يقف عليها الأول والآخر وقوفا واحدا ، ويبقى حكمها إلى يوم القيامة .

* * *

انظر - وفقك الله لما هديناك إليه - ، وفكر في الذي دللناك عليه ؛ فالحق منهج واضح ، والدين ميزان راجح ؛ والجهل لا يزيد إلا عمى ، ولا يورث إلا ندما .

قال الله - عز وجل - : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب .

وقال : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا .

وقال : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا .

وعلى حسب ما آتى من الفضل ، وأعطى من الكمال والعقل - تقع الهداية والتبيين ؛ فإن الأمور تتم بأسبابها ، وتحصل بآلتها ، ومن سلبه [ ص: 304 ] التوفيق ، وحرمه الإرشاد والتسديد - فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا .

فاحمد الله على ما رزقك من الفهم إن فهمت ، وقل رب زدني علما ، إن أنت علمت ، وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون .

وإن ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة ، وتقدم في المعرفة ، فسيقع بك على الطريق الأرشد ، وسيقف بك على الوجه الأحمد ؛ فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علما ، وتيقنت فهما .

ولا يوسوس إليك الشيطان بأنه قد كان ممن هو أعلم منك بالعربية ، وأدرب منك في الفصاحة ؛ أقوام وأي أقوام ، ورجال وأي رجال ، فكذبوا وارتابوا ؛ لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز ، ولكن اختلفت أحوالهم ؛ فكانوا بين جاهل وجاحد ، وبين كافر نعمة وحاسد ؛ وبين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات ، وحائد عن النظر في الدلالات ، وناقص في باب البحث ، ومختل الآلة في وجه الفحص ، ومستهين بأمر الأديان ، وغاو تحت حبالة الشيطان ، ومقذوف بخذلان الرحمن . وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة ، ودرجات الحرمان مختلفة .

وهلا جعلت بإزاء الكفرة ، مثل " لبيد بن ربيعة العامري " في حسن [ ص: 305 ] إسلامه ، و " كعب بن زهير " في صدق إيمانه ، و " حسان بن ثابت " وغيرهم : من الشعراء والخطباء الذين أسلموا ؟

على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر ، أو بحر زاخر .

وقد بينا : أن لا اعتصام إلا بهداية الله ، ولا توفيق إلا بنعمة الله ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

فتأمل ما عرفناك في كتابنا ، وفرغ له قلبك ، واجمع عليه لبك ؛ ثم اعتصم بالله يهدك ، وتوكل عليه يعنك ويجرك ، واسترشده يرشدك ؛ وهو حسبي وحسبك ، ونعم الوكيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية