الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8426 ) فصل : إذا خلف ثلاثة بنين وأبوين ، فادعى البنون أن أباهم وقف داره عليهم في صحته ، وأقاموا بذلك شاهدا واحدا ، حلفوا معه ، وصارت وقفا عليهم ، وسقط حق الأبوين ، وإن لم يحلفوا معه ، ولم يكن على الميت دين ولا له وصية ، حلف الأبوان ، وكان نصيبهما طلقا لهما ، ونصيب البنين وقفا عليهم بإقرارهم ; لأنه ينفذ بإقرارهم .

                                                                                                                                            وإن كان على الميت دين ، أو وصى بشيء ، قضي دينه ، ونفذت وصيته ، وما بقي بين الورثة ، فما حصل للبنين كان وقفا عليهم بإقرارهم . وإن حلف واحد منهم كان ثلث الدار وقفا عليه ، والباقي يقضي منه الدين وما فضل يكون ميراثا ، فما حصل للابنين منه كان وقفا عليهما ، ولا يرث الحالف شيئا ; لأنه يعترف أنه لا يستحق منها شيئا سوى ما وقف عليه . وإن حلفوا كلهم ، فثبت الوقف عليهم ، لم يخل من أن يكون الوقف مرتبا على بطن ، ثم على بطن بعد بطن أبدا ، أو مشتركا ، فإن كان مرتبا ، فإذا انقرض الأولاد الثلاثة ، انتقل الوقف إلى البطن الثاني ، بغير يمين ; لأنه قد ثبت كونه وقفا بالشاهدين ويمين الأولاد ، فلم يحتج من انتقل إليه إلى بينة ، كما لو ثبت بشاهدين ، وكالمال الموروث .

                                                                                                                                            وكذلك إذا انقرض الأولاد ، ورجع إلى المساكين ، لم يحتاجوا في ثبوته لهم إلى يمين ; لما ذكرناه . وإن انقرض أحد الأولاد ، انتقل نصيبه منه إلى إخوته ، أو إلى من شرط الواقف انتقاله إليه ، بغير يمين ; لما ذكرنا . فإن امتنع البطن الأول من اليمين ، فقد ذكرنا أن نصيبهم يكون وقفا عليهم بإقرارهم ، فإذا انقرضوا ، كان ذلك وقفا على حسب ما أقروا به ، فإن كان إقرارهم أنه وقف عليهم ، ثم على أولادهم ، فقال أولادهم : نحن نحلف مع شاهدنا ، لتكون جميع الدار وقفا لنا . فلهم ذلك ; لأنهم ينقلون الوقف من الواقف ، فلهم إثباته [ ص: 208 ] كالبطن الأول .

                                                                                                                                            فأما إن حلف أحد البنين ، ونكل أخواه ، ثم مات الحالف ; نظرت ، فإن مات بعد موت إخوته ، صرف نصيبه إلى أولاده ، وجها واحدا . وإن مات في حياة إخوته ، ففيه ثلاثة أوجه ; أحدها ، ينصرف إلى إخوته ; لأنه لا يثبت للبطن الثاني شيء مع بقاء أحد من البطن الأول . والثاني ، ينتقل إلى أولاده ; لأن أخويه أسقطا حقهما بنكولهما ، فصارا كالمعدومين . والثالث ، يصرف إلى أقرب عصبة الواقف ; لأنه لم يمكن صرفه إلى الأخوين ، ولا إلى البطن الثاني ، لما ذكرنا ، فيصرف إلى أقرب عصبة الواقف ، إلى أن يموت الأخوان ، ثم يعود إلى البطن الثاني .

                                                                                                                                            والأول أصح ; لأن الأخوين لم يسقطا حقوقهما ، وإنما امتنعا من إقامة الحجة عليه ، ولذلك لو اعترف لهما الأبوان ، ثبت الوقف من غير يمين ، وها هنا قد حصل الاعتراف من البطن الثاني ، فوجب أن ينصرف إليهما ; لحصول الاتفاق من الجميع على استحقاقهما له . فإن قيل : فإذا كان البطن الثاني صغارا ، فما حصل الاعتراف منهم . قلنا : قد حصل الاعتراف من الحالف الذي ثبتت الحجة بيمينه ، وبالبينة التي ثبت بها الوقف ، وبها يستحق البطن الثاني ، فاكتفي بذلك في انتقاله إلى الأخوين ، كما يكتفى به في انتقاله إلى البطن الثاني بعد انقراض الأخوين ، ويدل على صحة هذا ، أننا اكتفينا بالبينة في أصل الوقف ، وفي كيفيته ، وصفته ، وترتيبه ، فيما عدا هذا المختلف فيه فيجب أن يكتفى به فيه .

                                                                                                                                            فأما إن كان شرط الواقف أن من مات منهم عن ولد ، انتقل نصيبه إليه ، انتقل إلى أولاده ، وجها واحدا ; لأنه لا منازع لهم فيه . وإن مات من غير ولد ، انتقل إلى أخويه ، على الوجه الصحيح ، ويخرج فيه الوجهان الآخران . الحال الثاني ، إذا كان الوقف مشتركا ; وهو أن يدعوا أن أباهم وقف داره على ولده ، وولد ولده ما تناسلوا ، فقد شرك بين البطون ، ففي هذه الحال ، إذا حلف أولاده الثلاثة مع شاهدهم ولم يكن أحد من أولادهم معهم موجودا ، ثبت الوقف على الثلاثة .

                                                                                                                                            وإن كان من أولادهم أحد موجودا ، فهو شريكهم ، فإن كان كبيرا حلف واستحق ، وإن لم يحلف كان نصيبه ميراثا تقضى منه الديون ، وتنفذ الوصايا ، وباقيه للورثة ; لأنه يأخذ الوقف ابتداء من الواقف بغير واسطة ، فهو كأحد البنين . وإن كان صغيرا ، أو حدث لأحد البنين ولد يشاركهم في الوقف ، أو كان أحد البنين صغيرا ، وقف نصيبه من الوقف عليه ، ولا يسلم إلى وليه حتى يبلغ ، فيحلف أو يمتنع ; لأنه يتلقى الوقف من غير واسطة .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلم لم يستحق بغير يمين ، لكون البنين المستحقين معترفين له بذلك ، فيكتفى باعترافهم ، كما لو كان في أيديهم دار فاعترفوا لصغير منها بشرك ، فإنه يسلم إلى وليه ؟ قلنا : الفرق بينهما أن الدار التي في أيديهم لم يكن لهم فيها منازع ، ولا يوجب على أحد منهم فيها يمين ، وهذه ينازعهم فيها الأبوان ، وأصحاب الديون والوصايا ، وإنما يأخذونها بأيمانهم ، فإذا أقروا بمشارك لهم ، فقد اعترفوا بأنه كواحد منهم ، لا يستحق إلا بيمينه ، كما لا يستحق واحد منهم إلا باليمين . ويفارق ما إذا كان الوقف مرتبا على بطن ، بعد بطن ، فإنه لا يشاركهم [ ص: 209 ] أحد من البطن الثاني .

                                                                                                                                            فإذا بلغ الصغير الموقوف نصيبه ، فحلف ، كان له ، وإن امتنع نظرت ; فإن كان موجودا حين الدعوى ، أو قبل حلفهم ، كان نصيبه ميراثا ، كما لو كان بالغا ، فامتنع من اليمين ، فإن حدث بعد أيمانهم وثبوت الوقف نماء ، كان له نصيبه أيضا ; لأن الوقف ثبت في جميع الدار بأيمان البنين ، فلا يبطل بامتناع من حدث ، إلا أنه إن أقر أنها ليست وقفا ، وكذب البنين في ذلك ، كان نصيبه من الغلة ميراثا ، حكمه حكم نماء الميراث ، وإن لم يكذبهم ، فنصيبه وقف له .

                                                                                                                                            وقال القاضي : إن امتنع من اليمين ، رد نصيبه إلى الأولاد الثلاثة ، ولم يفرق بين من كان موجودا حال الدعوى والحادث بعدها ; لأنه لا يجوز أن يستحق شيئا بغير يمينه ، ولا يجوز أن يبطل الوقف الثابت بأيمانهم ، فتعين رد نصيبه إليهم . ولنا ، أنه إن كان موجودا حال الدعوى وحلفهم ، فهو شريكهم حين يثبت الوقف ، فلم يجز أن يثبت الوقف في نصيبه بغير يمينه ، كالبالغ ، وإن كان حادثا بعد ثبوت الوقف بأيمانهم ، فهم مقرون له بنصيبه وهو يصدقهم في إقرارهم فلم يجز لهم أخذ نصيبه كما لو أقروا له بمال ، ولأنهم يقرون بأنهم لا يستحقون أكثر من ثلاثة أرباع الوقف ، فلا يجوز لهم أخذ أكثر من ذلك .

                                                                                                                                            وإن مات الصغير قبل بلوغه ، قام وارثه مقامه ، فيما ذكرنا . وإن مات أحد البنين البالغين قبل بلوغ الصغير ، وقف أيضا نصيبه مما كان لعمه الميت ، وكان الحكم فيه ، كالحكم في نصيبه الأصلي . وقال القاضي : إن بلغ فامتنع من اليمين ، فالربع موقوف إلى حين موت الثالث ، ويقسم بين البالغين وورثة الميت ; لأنه كان بين الثلاثة ، ونصيبه من الميت للبالغين الحيين خاصة ; لأنهما مستحقا الوقف .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية