الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8441 ) فصل : وإذا نكل من توجهت عليه اليمين عنها ، وقال : لي بينة أقيمها ، أو حساب أستثبته ، لأحلف على ما أتيقن . فذكر أبو الخطاب ، أنه لا يمهل ، وإن لم يحلف جعل ناكلا . وقيل : لا يكون ذلك نكولا ، ويمهل مدة قريبة . وإن قال : ما أريد أن أحلف . أو سكت ، فلم يذكر شيئا نظرنا في المدعى ; فإن كان مالا أو المقصود منه المال ، قضي عليه بنكوله ، ولم ترد اليمين على المدعي . نص عليه أحمد فقال : أنا لا أرى رد اليمين ، إن حلف المدعى عليه ، وإلا دفع إليه حقه . وبهذا قال أبو حنيفة .

                                                                                                                                            واختار أبو الخطاب ، أن له رد اليمين على المدعي ، إن ردها حلف المدعي ، وحكم له بما ادعاه . قال وقد صوبه أحمد ، فقال : ما هو ببعيد ، يحلف ويستحق . : هو قول أهل المدينة ، روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال شريح ، والشعبي ، والنخعي ، وابن سيرين ، ومالك في المال خاصة . وقال الشافعي في جميع الدعاوى ; لما روي عن نافع عن ابن عمر { ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق } . رواه الدارقطني ; ولأنه إذا نكل ظهر صدق المدعي ، وقوي جانبه ، فتشرع اليمين في حقه ، كالمدعى عليه قبل نكوله ، وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد ، ولأن النكول قد يكون لجهله بالحال ، وتورعه عن الحلف على ما لا يتحققه ، أو للخوف من عاقبة اليمين ، أو ترفعا عنها ، مع علمه بصدقه في إنكاره ، ولا يتعين بنكوله صدق المدعي ، فلا يجوز الحكم له من غير دليل ، فإذا حلف كانت يمينه دليلا عند عدم ما هو أقوى منها ، كما [ ص: 217 ] في موضع الوفاق . وقال ابن أبي ليلى : لا أدعه حتى يقر أو يحلف .

                                                                                                                                            ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ولكن اليمين على جانب المدعى عليه } . فحصرها في جانب المدعى عليه . وقوله : { البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه } . فجعل جنس اليمين في جنب المدعى عليه ، كما جعل جنس البينة في جنبة المدعي . وقال أحمد : قدم ابن عمر إلى عثمان في عبد له ، فقال له : احلف أنك ما بعته وبه عيب علمته . فأبى ابن عمر أن يحلف ، فرد العبد عليه ، ولم يرد اليمين على المدعي .

                                                                                                                                            ولأنها بينة في المال ، فحكم فيها بالنكول ، كما لو مات من لا وارث له ، فوجد الإمام في دفتره دينا له على إنسان ، فطالبه به ، فأنكره ، وطلب منه اليمين ، فأنكره ، فإنه لا خلاف أن اليمين لا ترد . وقد ذكر أصحاب الشافعي في هذا ، أنه يقضى بالنكول ، في أحد الوجهين ، وفي الآخر ، يحبس المدعى عليه ، حتى يقر ، أو يحلف . وكذلك لو ادعى رجل على ميت أنه وصى إليه بتفريق ثلثه ، وأنكر الورثة ، ونكلوا عن اليمين ، قضي عليهم .

                                                                                                                                            والخبر لا تعرف صحته ، ومخالفة ابن عمر له في القصة التي ذكرناها ، يدل على ضعفه ، فإنه لم يرد اليمين على المدعي ، ولا ردها عثمان . فعلى هذا ، إذا نكل عن اليمين ، قال له الحاكم : إن حلفت ، وإلا قضيت عليك . ثلاثا ، فإن حلف وإلا قضى عليه . وعلى القول الآخر ، يقول له : لك رد اليمين على المدعي . فإن ردها ، حلف ، وقضي له ، وإن نكل عن اليمين ، سئل عن سبب نكوله ، فإن قال : لي بينة أقيمها ، أو حساب أستثبته ، لأحلف على ما أتيقنه . أخرت الحكومة . وإن قال : ما أريد أن أحلف . سقط حقه من اليمين ، فلو بذلها في ذلك المجلس بعد هذا ، لم تسمع منه ، إلى أن يعود في مجلس آخر .

                                                                                                                                            فإن قيل : فالمدعى عليه لو امتنع من اليمين ، ثم بذلها ، سمعت منه ، فلم منعتم سماعها هاهنا ؟ قلنا : اليمين في حق المدعى عليه هي الأصل ، فمتى قدر عليها ، أو بذلها ، وجب قبولها ، والمصير إليها ، كالمبدلات مع أبدالها ، وأما يمين المدعي ، فهي بدل ، فإذا امتنع منها ، لم ينتقل الحق إلى غيره ، فإذا امتنع منها ، سقط حقه منها ; لضعفها .

                                                                                                                                            وأما إذا حلف ، وقضي له ، فعاد المدعى عليه ، وبذل اليمين ، لم يسمع منه ، وهكذا لو بذلها بعد الحكم عليه بنكوله ، لم يسمع ; لأن الحكم قد تم ، فلا ينقض ، كما لو قامت به بينة . فأما غير المال ، وما لا يقصد به المال ، فلا يقضى فيه بالنكول . نص عليه أحمد في القصاص . ونقل عنه ، في رجل ادعى على رجل أنه قذفه ، فقال : استحلفوه ، فإن قال : لا أحلف . أقيم عليه . قال أبو بكر : هذا قول قديم ، والمذهب أنه لا يقضي في شيء من هذا بالنكول ، ولا فرق بين القصاص في النفس ، والقصاص في الطرف .

                                                                                                                                            وبهذا قال أبو يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة : يقضي بالنكول في القصاص فيما دون النفس . وعن أحمد مثله . والأول هو المذهب ; لأن هذا أحد نوعي القصاص ، فأشبه النوع الآخر . فعلى هذا ، ما يصنع به ؟ فيه وجهان ; أحدهما ، يخلى سبيله ; لأنه لم يثبت عليه حجة ، وتكون فائدة شرعية اليمين الردع والزجر . والثاني ، يحبس حتى يقر أو يحلف . وأصل الوجهين المرأة إذا نكلت عن اللعان .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية