الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8533 ) مسألة قال : ولو كان في يده دار ، فادعاها رجل ، فأقر بها لغيره ، فإن كان المقر له بها حاضرا ، جعل الخصم فيها ، وإن كان غائبا ، وكانت للمدعي بينة ، حكم بها للمدعي ببينة ، وكان الغائب على خصومته متى حضر وجملته أن الإنسان إذا ادعى دارا في يد غيره ، فقال الذي هي في يده : ليست لي ، إنما هي لفلان . وكان المقر له بها حاضرا سئل عن ذلك ، فإن صدقه ، صار الخصم فيها ، وكان صاحب اليد ; لأن من هي في يده اعترف أن يده نائبة عن يده ، وإقرار الإنسان بما في يده إقرار صحيح ، فيصير خصما للمدعي ، فإن كانت للمدعي بينة ، حكم له بها ، وإن لم تكن له بينة ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه .

                                                                                                                                            وإن قال المدعي : أحلفوا لي المقر الذي كانت العين في يده ، أنه لا يعلم أنها لي . فعليه اليمين ; لأنه لو أقر له بها بعد اعترافه ، لزمه الغرم كما لو قال : هذه العين لزيد . ثم قال : هي لعمرو . فإنها تدفع إلى زيد ، ويدفع قيمتها لعمرو . ومن لزمه الغرم مع الإقرار ، لزمته اليمين مع الإنكار ، فإن رد المقر له الإقرار ، وقال : ليست لي ، وإنما هي للمدعي . حكم له بها . وإن لم يقل : هي للمدعي ، ولكن قال : ليست لي . فإن كانت للمدعي بينة ، حكم له بها ، وإن لم تكن له بينة ، ففيه وجهان ; أحدهما ، تدفع إلى المدعي ; لأنه يدعيها ، ولا منازع له فيها ، ولأن من هي في يده لو ادعاها ، ثم نكل ، قضينا بها ، للمدعي فمع عدم ادعائه لها أولى والثاني ، لا تدفع إليه ; لأنه لم يثبت لها مستحق ; لأن المدعي لا يد له ، ولا بينة ، وصاحب اليد معترف أنها ليست له ، فيأخذها الإمام فيحفظها لصاحبها . وهذا الوجه الثاني ذكره القاضي ، والأول أولى ; لما ذكرنا من دليله .

                                                                                                                                            ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ، ووجه ثالث ، أن المدعي يحلف أنها له ، وتسلم إليه . ويتخرج لنا مثله ; بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه . وإن قال المقر له : هي لثالث . انتقلت الخصومة إليه ، وصار بمنزلة صاحب اليد ; لأنه أقر له بها من اليد له حكما . وأما إن أقر بها المدعى عليه لمجهول ، قيل له : ليس هذا بجواب . فإن أقررت بها لمعروف ، وإلا جعلناك ناكلا وقضينا عليك . فإن أصر ، قضي عليه بالنكول . وإن أقر بها لغائب ، أو لغير مكلف معين ، كالصبي والمجنون ، صارت الدعوى عليه .

                                                                                                                                            فإن لم تكن للمدعي بينة ، لم يقض له بها ; لأن الحاضر يعترف أنها ليست له ، ولا يقضي على الغائب بمجرد الدعوى ، ويقف الأمر حتى يقدم الغائب ، ويصير غير المكلف مكلفا فتكون الخصومة معه . فإن قال المدعي : أحلفوا لي المدعى عليه أحلفناه ; لما تقدم . وإن أقر بها للمدعي ، لم تسلم إليه ; لأنه اعترف أنها لغيره ، ويلزمه أن يغرم له قيمتها ; لأنه فوتها عليه بإقراره بها [ ص: 261 ] لغيره . وإن كان مع المدعي بينة ، سمعها . الحاكم ، وقضى بها ، وكان الغائب على خصومته ، متى حضر ، له أن يقدح في بينة المدعي ، وأن يقيم بينة تشهد بانتقال الملك إليه من المدعي .

                                                                                                                                            وإن أقام بينة أنها ملكه ، فهل يقضي بها ؟ على وجهين ; بناء على تقديم بينة الداخل أو الخارج ; فإن قلنا تقدم بينة الخارج . فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج ، أو سبب من أسباب الملك ، فهل تسمع بينته ، يقضي بها ؟ على وجهين . وإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب ، سمعها الحاكم ، ولم يقض بها ; لأن البينة للغائب ، والغائب لم يدعها هو ولا وكيله ، وإنما سمعها الحاكم ; لما فيها من الفائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر ، وسقوط اليمين عنه ، إذا ادعى عليه أنك تعلم أنها لي . ويتخرج أن يقضي بها ، إذا قلنا بتقديم بينة الداخل ، وأن للمودع المخاصمة في الوديعة إذا غصبت . ولأنها بينة مسموعة ، فيقضى بها ، كبينة المدعي إذا لم تعارضها بينة أخرى . فإن ادعى من هي في يده ، أنها معه بإجارة أو عارية ، وأقام بينة بالملك للغائب ، لم يقض بها ; لوجهين ; أحدهما أن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على الملك للمؤجر ، بهذه البينة ، فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها .

                                                                                                                                            والثاني أن بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل ، ويخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل ، وكون الحاضر له فيها حق ; فإنه يقضي بها ، وجها واحدا . ومتى عاد المقر بها لغيره ، فادعاها لنفسه ، لم تسمع دعواه ; لأنه أقر بأنه لا يملكها ، فلا يسمع منه الرجوع عن إقراره . والحكم في غير المكلف ، كالحكم في الغائب ، على ما ذكرنا

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية