الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 221 ]

                وأما الثاني‌‌‌‌‌‌ ، وهي شروط المكلف به . فأن يكون معلوم الحقيقة للمكلف ، وإلا لم يتوجه قصده إليه . معلوما كونه مأمورا به ، وإلا لم يتصور منه قصد الطاعة والامتثال . معدوما ، إذ إيجاد الموجود محال . وفي انقطاع التكليف حال حدوث الفعل خلاف ، الأصح ينقطع ، خلافا للأشعري . وأن يكون ممكنا ، إذ المكلف به مستدعى حصوله ، وذلك مستلزم تصور وقوعه ، والمحال لا يتصور وقوعه ، فلا يستدعى حصوله ، فلا يكلف به ، هذا من حيث الإجمال .

                أما التفصيل : فالمحال ضربان ، محال لنفسه ، كالجمع بين الضدين ، ولغيره ، كإيمان من علم الله تعالى أنه لا يؤمن . فالإجماع على صحة التكليف بالثاني ، والأكثرون على امتناعه بالأول ، لما سبق ، وخالف قوم ، وهو أظهر .

                التالي السابق


                قوله : " وأما الثاني " أي : وأما البعض الثاني من شروط التكليف ، " وهي شروط المكلف به " ، وهو الفعل " فأن " أي : فمنها : أن " يكون معلوم الحقيقة للمكلف وإلا " أي : لو لم يعلم المكلف حقيقة ما كلف به " لم يتوجه قصده إليه " حتى يأتي به ، وإذا لم يتوجه قصده إليه لم يصح وجوده منه ، لأن توجه القصد إلى الفعل من لوازم إيجاده ، فإذا انتفى اللازم الذي هو القصد ، انتفى الملزوم وهو الإيجاد .

                مثاله : أن المأمور بالصلاة ، يجب أولا أن يعلم حقيقتها ، وأنها جملة أفعال ، من قيام وركوع وسجود وجلوس ، يتخللها أذكار مخصوصة ، مفتتحة بالتكبير ، مختتمة بالتسليم ، حتى يصح قصده لهذه الأفعال ، ويشرع فيها شيئا بعد شيء . فلو لم يعلم ما حقيقة الصلاة ، لم يدر في أي فعل يشرع من أنواع الأفعال ، فيكون تكليفه بفعل ما لا يعلم حقيقته تكليفا بما لا يطاق ، وهو وإن كان جائزا لكنه غير واقع . [ ص: 222 ]

                قوله : " معلوما كونه مأمورا " ، أي : ومن شروط المكلف به ، أن يعلم المكلف أنه مأمور " به ، وإلا " أي : وإن لم يعلم أنه مأمور به ، " لم يتصور منه قصد الطاعة والامتثال " بفعله ، إذ الطاعة موافقة الأمر ، والامتثال : هو جعل الأمر مثالا يتبع مقتضاه ، فإن لم يعلم الأمر لم يتصور موافقته له ، ولا نصبه مثالا يعتمده ، فيكون أيضا من تكليف ما لا يطاق .

                تنبيه : قولنا مثلا : يجب كذا ، أو لا يجب كذا ، وإلا كان كذا ، وإلا لم يكن كذا ، تقديره : يجب كذا ، وإن لم يجب كذا ، كان كذا ، فهي جملة شرطية ، أصلها ( إن ) الشرطية ، وبعدها ( لا ) النافية مفصولة منها ، هكذا : يجب كذا ، وإن لا يجب كذا كان كذا أو لم يكن كذا ، أي : وإن انتفى وجوب كذا ، كان كذا ، لكن لكثرة الاستعمال وصلوا ( لا ) بإن ، وأدغموا نون ( إن ) الشرطية في لام ( لا ) النافية ، فصارت هكذا : وإلا يكن كذا ، كان كذا ، ثم حذفوا الشرط ، لظهوره مما في سياقه ، فقالوا : يجب كذا ، وإلا كان كذا . وهذه الصيغ في القرآن متعددة ، كقوله تعالى : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن [ يوسف : 33 ] ، إلا تنفروا يعذبكم [ التوبة : 39 ] إلا تنصروه فقد نصره الله [ التوبة : 40 ] ، فقولنا هاهنا : يجب أن يكون الفعل معلوما للمكلف ، وإلا لم يتوجه قصده إليه ، أي : وإن لم يكن معلوم الحقيقة للمكلف ، لم يتوجه قصده إليه ، ثم حذف الشرط ، وبقي جوابه يلي الشرط ، [ ص: 223 ] فقيل : وإلا لم يتوجه ، وهذا من التركيبات اللغوية التي تلقيت بالعادة ، ولا يتنبه لوجه تركيبها كل أحد .



                قوله : " معدوما " أي : ومن شروط المكلف به أن يكون معدوما ، كصلاة الظهر قبل الزوال " إذ إيجاد الموجود محال " كما يقال لمن بنى حائطا أو كتب كتابا : ابنه ، أو اكتبه بعينه ، مع بقائه مبنيا مكتوبا مرة أخرى .

                وإنما قلنا : " إذ إيجاد الموجود محال " ، لأن الإيجاد هو تأثير القدرة في إخراج المعلوم من العدم إلى الوجود ، فلو أوجد مرة ثانية ، لزم أن يكون معدوما ، لاحتياجه إلى الإخراج من العدم ، موجودا بالإيجاد الأول ، فيلزم أن يكون موجودا معدوما ، وهو جمع بين النقيضين ، وهو محال .

                قوله : " وفي انقطاع التكليف حال حدوث الفعل خلاف ، الأصح ينقطع ، خلافا للأشعري " .

                ليست هذه من مسائل الروضة ، وهي مشهورة ، ذكرها الآمدي وابن الحاجب وغيرهما ، وهي واسطة بين طرفين ، فلذلك خرج فيها الخلاف ، وهو شأن ما كان واسطة بين طرفين غالبا .

                وبيانه ، أن الفعل ينقسم بانقسام الزمان ماض وحال ومستقبل ، وله باعتبار الزمان ، قبل وبعد وحال ، وهو الواسطة . فالتكليف إما أن يتعلق به قبل وجوده ، كالحركة قبل التحرك ، ولا خلاف في جوازه ، إلا عند شذوذ من الأشعرية ، وإما أن يتعلق به بعد حدوثه ، كالحركة بعد انقضائها بانقضاء التحرك ، وهو ممتنع اتفاقا ، لما سبق من أنه تكليف بإيجاد الموجود ، وإما أن يتعلق به حال حدوثه ، كالحركة في أول زمان التحرك ، فهو جائز خلافا للمعتزلة . [ ص: 224 ] لنا : أنه مقدور ، وكل مقدور يجوز التكليف به . أما أنه مقدور فبالاتفاق ، وأما أن كل مقدور يجوز التكليف به ، فلأنه يصح إيجاده ، والتكليف إنما هو الأمر بإيجاد الفعل .

                قلت : هذا المقام فيه تحقيق ، وذلك أنا إذا فسرنا حال حدوث الفعل بأنه أول زمن وجوده ، صح التكليف به وكان في الحقيقة تكليفا بإتمامه وإيجاد ما لم يوجد منه ، وإن أريد بحال حدوثه زمن وجوده من أوله إلى آخره لم يصح مطلقا ، بل يصح في أول زمن وجوده أن يكلف بإتمامه ، كما سبق في التفسير الأول ، وعند آخر زمن وجوده يكون قد وجد وانقضى ، فيصير من باب إيجاد الموجود .

                وهذا البحث ينزع إلى مسألة الحركة وأنها تقبل القسمة أولا ، وموضع ذلك غير هاهنا .

                وكأن الخلاف بين الطائفتين في هذه المسألة لفظي ، لأن من أجاز التكليف علقه بأول زمن الحدوث ، ومن منعه علقه بآخره . والله أعلم .



                قوله : " وأن يكون ممكنا " أي : ومن شروط المكلف به أن يكون ممكنا " إذ المكلف به مستدعى حصوله " إلى آخره ، أي : يشترط إمكان الفعل المكلف به ، لأن حصوله مستدعى ، أي : مطلوب للشرع ، وكل ما كان مطلوب الحصول يجب أن يكون متصور الوقوع ، فالمكلف به يجب أن يكون متصور الوقوع ، وهو معنى كونه ممكنا ، لكن المحال لا يتصور وقوعه ، وما لا يتصور وقوعه ، لا يستدعى حصوله . [ ص: 225 ]

                أما أن المحال لا يتصور وقوعه ، فلما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وأما أن ما لا يتصور وقوعه ، لا يستدعى حصوله ، فلأن استدعاء الحصول لا يكون إلا لفائدة ، وحصول الفائدة مما لا يتصور وقوعه ، لا يعقل . وإذا ثبت أن المحال لا يستدعى حصوله ، فلا يكلف به لعدم فائدة التكليف به .

                قوله : " هذا من حيث الإجمال " أي : هذا تقرير اشتراط إمكان الفعل المكلف به من حيث الجملة ، وفيه من حيث التفصيل كلام أبسط من هذا ، لأن الكلام في هذا الشرط ، هو الكلام في المسألة المعروفة بتكليف ما لا يطاق ، وبعضهم يسميها تكليف المحال .



                وطريق التفصيل فيها أن المحال ضربان : " محال لنفسه ، كالجمع بين الضدين " كالسواد والبياض ، والقيام والقعود ، " ولغيره " أي : الضرب الثاني " محال لغيره " كإيمان من علم الله سبحانه وتعالى أنه لا يؤمن ، كفرعون وأبي جهل وغيرهما من الكفار ، إيمانهم ممتنع لا لذاته ، أي : لا لكونه إيمانا ، إذ لو امتنع إيمانهم لكونه إيمانا ، لما وجد الإيمان من أحد ، وإنما امتنع إيمانهم لغيره ، أي : لعلة خارجة عنه ، وهو تعلق علم الله سبحانه وتعالى وإرادته بأنهم لا يؤمنون ، وخلاف معلوم الله تعالى وإراداته محال لغيره ، بخلاف الجمع بين الضدين ، فإنه محال لذاته ، أي : لكونه جمعا بين الضدين ، فعلة امتناعه ذاته ، لا أمر خارج عنه ، فهذا [ ص: 226 ] تحقيق المحال لذاته ولغيره ، وقد سبق نحو هذا في الواجب لذاته ولغيره في شرح الخطبة .

                قوله : " فالإجماع على صحة التكليف بالثاني " يعني : المحال لغيره ، " والأكثرون على امتناعه بالأول " يعني المحال لذاته " لما سبق " ، يعني في التقرير الإجمالي من أنه لا يتصور وقوعه ، فلا يستدعى حصوله .

                قوله : " وخالف قوم " ، أي : في هذا الضرب ، وهو المحال لذاته ، فقالوا : يجوز التكليف به ، " وهو أظهر " يعني في النظر ، لما يتقرر " إن شاء الله تعالى .

                قلت : فحصل من هذا أن المحال لغيره يجوز التكليف به إجماعا ، وفي المحال لذاته ، قولان للناس .

                وقال الآمدي : مذهب الأشعري في أحد قوليه جواز التكليف بالممتنع لذاته ، وهو مذهب أكثر أصحابه ، واختلفوا في وقوعه .

                والقول الثاني : امتناعه ، وهو مذهب البصريين وأكثر البغداديين من المعتزلة ، واتفقوا على جوازه بالممتنع لغيره ، خلافا لبعض الثنوية .

                قال : والمختار امتناع الأول ، وجواز الثاني .

                قلت : فحصل من هذا الخلاف في كل واحد من قسمي الممتنع ، بالنسبة إلى مجموع العلم . والتفصيل الذي اختاره الآمدي داخل في الخلاف ، لأنه اختار في كل قسم أحد القولين فيه ، فهو كالخلاف الذي لا يرفع الإجماع .

                وذكر ابن حزم الظاهري في كتاب " الملل والنحل " أن المحال على أربعة أقسام : محال مطلق : وهو كل ما أوجب على ذات البارئ تغيرا أو نقصا ، فهو محال [ ص: 227 ] لعينه .

                ومحال فيما بينا في بينة العقل ، ككون المرء قائما قاعدا ، ونحوه من اجتماع الأضداد والنقائض .

                ومحال في الوجود ، كانقلاب الجماد حيوانا ، وانقلاب نوع من الحيوان نوعا منه آخر ، كانقلاب الفرس جملا أو ثورا أو غير ذلك .

                ومحال بالإضافة ، كنبات اللحية لابن ثلاث سنين ، وإحباله النساء ، وكلام الأبله الغبي في دقائق المنطق ، وصنعة الشعر البديع ، فهذا محال بالإضافة إلى الصبي والأبله ، أما إلى الرجل البالغ والذكي الفاضل ، فهو ممكن قريب .

                وزعم ابن حزم ، أن البارئ - جل جلاله - قادر على هذه الأقسام من المحال جميعها ، خلا القسم الأول ، لاستحالته لعينه ، وعدم دخوله تحت المقدور ، والسؤال عنه ليس بسؤال أصلا ، حتى قال ابن حزم : إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يتخذ ولدا ، صرح بذلك ، واحتج بقوله سبحانه وتعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا الآية [ الزمر : 4 ] .

                وذكر الكناني في " مطالع الشريعة " أن امتناع العقل قد يكون لعينه ، كالجمع بين الضدين ، وقد يكون بالإضافة إلى بعض القادرين ، كخلق الأجسام ، وقد يكون في العرف والعادة ، كطيران الآدمي وفقد الآلة في تكليف الأعمى نقط المصحف ، ولعدم القدرة في تكليف القائم القعود ، على مذهب من يمنع تقدم القدرة على [ ص: 228 ] الفعل ، وقد يكون لعدم فهم الخطاب ، كالميت .

                وقد اضطرب قول الأشعري ، في جواز أن التكليف في هذا النوع الأخير ، والأول هو المقصود بعقد الباب ، هذا لفظه . وذكر مأخذ الخلاف ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .




                الخدمات العلمية