الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرا ورحمة

                                                                                                                2600 حدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما فلما خرجا قلت يا رسول الله من أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان قال وما ذاك قالت قلت لعنتهما وسببتهما قال أو ما علمت ما شارطت عليه ربي قلت اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا حدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثناه علي بن حجر السعدي وإسحق بن إبراهيم وعلي بن خشرم جميعا عن عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش بهذا الإسناد نحو حديث جرير وقال في حديث عيسى فخلوا به فسبهما ولعنهما وأخرجهما [ ص: 116 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 116 ] قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إنما أنا بشر ، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا ) وفي رواية : ( أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة ) وفي رواية : فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته اجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وفي رواية : إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر ، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة وفي رواية : إني اشترطت على ربي فقلت : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر ، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة هذه الأحاديث مبينة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته ، والاعتناء بمصالحهم ، والاحتياط لهم ، والرغبة في كل ما ينفعهم . وهذه الرواية المذكورة آخرا تبين المراد بباقي الروايات المطلقة ، وأنه إنما يكون دعاؤه عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه ، وكان مسلما ، وإلا فقد دعا صلى الله عليه وسلم على الكفار والمنافقين ، ولم يكن ذلك لهم رحمة . فإن قيل : كيف يدعو على من ليس هو بأهل الدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك ؟ فالجواب ما أجاب به العلماء ، ومختصره وجهان : أحدهما أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى ، وفي باطن الأمر ، ولكنه في الظاهر مستوجب له ، فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ، ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك ، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر . والثاني أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود ، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية ، كقوله : تربت يمينك ، وعقرى حلقى وفي هذا الحديث ( لا كبرت سنك ) وفي حديث معاوية لا أشبع الله بطنك ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء ، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة ، فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة ، وقربة وطهورا وأجرا ، [ ص: 117 ] وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان ، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه ، وقد سبق في هذا الحديث أنهم قالوا : ادع على دوس ، فقال : اللهم اهد دوسا وقال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( أغضب كما يغضب البشر ) فقد يقال : ظاهره أن السب ونحوه كان بسبب الغضب ، وجوابه ما ذكره المازري قال : يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أي دعاءه وسبه وجلده كان مما يخير فيه بين أمرين : أحدهما هذا الذي فعله ، والثاني : زجره بأمر آخر ، فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المتخير فيهما ، وهو سبه أو لعنه وجلده ونحو ذلك ، وليس ذلك خارجا عن حكم الشرع والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 118 ] ومعنى ( اجعلها له صلاة ) أي رحمة كما في الرواية الأخرى ، والصلاة من الله تعالى : الرحمة .

                                                                                                                قوله : ( جلده ) قال : وهي لغة أبي هريرة ، وإنما هي جلدته . معناه أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم وهي المشهورة لعامة العرب ( جلدته ) بالتاء ، ولغة أبي هريرة ( جلده ) بتشديد الدال على إدغام المثلين وهو جائز .

                                                                                                                قوله : ( سالم مولى النصريين ) بالنون والصاد المهملة سبق بيانه مرات .

                                                                                                                قوله : ( حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا إسحاق ابن أبي طلحة ) هكذا هو في جميع النسخ ، وهو صحيح ، وهو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة نسبه إلى جده .

                                                                                                                قوله : ( كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس ) فقوله : ( وهي أم أنس ) يعني أم سليم هي أم أنس .

                                                                                                                قوله : ( فقال لليتيمة أنت هيه ) هو بفتح الياء وإسكان الهاء وهي هاء السكت .

                                                                                                                [ ص: 119 ] قولها : ( لا يكبر سني ، أو قالت : قرني ) بفتح القاف ، وهو نظيرها في العمر . قال القاضي : معناه لا يطول عمرها ; لأنه إذا طال عمره طال عمر قرنه ، وهذا الذي قال فيه نظر ; لأنه لا يلزم من طول عمر أحد القرنين طول عمر الآخر ، فقد يكون سنهما واحدا ، ويموت أحدهما قبل الآخر .

                                                                                                                وأما قوله صلى الله عليه وسلم لها : ( لا كبر سنك ) فلم يرد به حقيقة الدعاء ، بل هو جار على ما قدمناه في ألفاظ هذا الباب .

                                                                                                                قوله : ( تلوث خمارها ) هو بالمثلثة في آخره أي تديره على رأسها .

                                                                                                                قوله : ( عن أبي حمزة القصاب عن ابن عباس ) أبو حمزة هذا بالحاء والزاي اسمه عمران بن أبي عطاء الأسدي الواسطي القصاب بياع القصب . قالوا : وليس له عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث ، وله عن ابن عباس من قوله أنه يكره مشاركة المسلم اليهودي ، وكل ما في الصحيحين أبو جمرة عن ابن عباس فهو بالجيم والراء ، وهو نصر بن عمران الضبعي ، إلا هذا القصاب فله في مسلم هذا الحديث وحده ، لا ذكر له في البخاري .

                                                                                                                [ ص: 120 ] قوله : ( عن ابن عباس قال : كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواريت خلف باب ، فجاء فحطأني حطأة ، وقال : " اذهب ادع لي معاوية ) وفسر الراوي أي قفدني . أما ( حطأني ) فبحاء ثم طاء مهملتين وبعدها همزة ، و ( قفدني ) بقاف ثم فاء ثم دال مهملة . وقوله : ( حطأة ) بفتح الحاء وإسكان الطاء بعدها همزة ، وهو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين ، وإنما فعل هذا بابن عباس ملاطفة وتأنيسا . وأما دعاؤه على معاوية أن لا يشبع حين تأخر ففيه الجوابان السابقان : أحدهما أنه جرى على اللسان بلا قصد ، والثاني أنه عقوبة له لتأخره . وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه ، فلهذا أدخله في هذا الباب ، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له . وفي هذا الحديث جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام . وفيه اعتماد الصبي فيما يرسل فيه من دعاء إنسان ونحوه من حمل هدية ، وطلب حاجة ، وأشباهه . وفيه جواز إرسال صبي غيره ممن يدل عليه في مثل هذا ، ولا يقال : هذا تصرف في منفعة الصبي ; لأن هذا قدر يسير ورد الشرع بالمسامحة به للحاجة ، واطرد به العرف وعمل المسلمين . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية