الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8860 ) مسألة : قال : ( وإذا علقت منه بحر في ملكه ، فوضعت بعض ما يستبين فيه خلق الإنسان ، كانت له بذلك أم ولد ) ذكر الخرقي لمصيرها أم ولد شروطا ثلاثة ; أحدها ، أن تعلق منه بحر . فأما إن علقت منه بمملوك ، ويتصور ذلك في الملك في موضعين ; أحدهما ، في العبد إذا ملكه سيده ، وقلنا : إنه يملك . فإنه إذا وطئ أمته واستولدها ، فولده مملوك ، ولا تصير الأمة أم ولد يثبت لها حكم الاستيلاد بذلك ، وسواء أذن له سيده في التسري بها أو لم يأذن له . والثاني ، إذا استولد المكاتب أمته ، فإن ولده مملوك له ، وأما الأمة ، فإنه لا تثبت لها أحكام أم الولد في العتق بموته في الحال ; لأن المكاتب ليس بحر ، وولده منها ليس بحر ، فأولى أن لا تتحرر . هي ومتى عجز المكاتب ، وعاد إلى الرق ، أو مات قبل أداء كتابته ، فهي أمة قن ، كأمة العبد القن . وهل يملك [ ص: 419 ] المكاتب بيعها ، والتصرف فيها ؟ فيه اختلاف ، ذكر القاضي في موضع ، أنه لا يثبت فيها شيء من أحكام الاستيلاد ، ولا تصير أم ولد بحال . وهذا أحد قولي الشافعي ; لأنها علقت بمملوك في ملك غير تام ، فلم يثبت لها شيء من أحكام الاستيلاد ، كأمة العبد القن . وظاهر المذهب أنها موقوفة ، لا يملك بيعها ، ولا نقل الملك فيها ، فإن عتق ، صارت له أم ولد ، تعتق بموته ، فيثبت لها من حرمة الاستيلاد ، ما يثبت لولدها من حرمة الحرية .

                                                                                                                                            وقد نص أحمد رضي الله عنه . على منع بيعها ، ومفهوم كلام الخرقي ، يحتمل الوجهين جميعا . الشرط الثاني ، أن تعلق منه في ملكه ، سواء كان من وطء مباح أم محرم ، مثل الوطء في الحيض ، أو النفاس ، أو الصوم ، أو الإحرام ، أو الظهار ، أو غيره . فأما إن علقت منه في غير ملكه ، لم تصر بذلك أم ولد ، سواء علقت منه بمملوك ، مثل أن يطأها في ملك غيره بنكاح أو زنا أو علقت بحر مثل أن يطأها بشبهة أو غر من أمة ، وتزوجها على أنها حرة فاستولدها ، أو اشترى جارية فاستولدها ، فبانت مستحقة ، فإن الولد حر ، ولا تصير الأمة أم ولد في هذه المواضع بحال . وفيه وجه آخر ، أنه إن ملكها بعد ذلك ، صارت أم ولد . وقد ذكرنا الخلاف في ذلك ، في المسألة التي قبل هذه . والمقصود بذكر هذه الشروط ها هنا ، ثبوت الحكم عند اجتماعها ، وأما انتفاؤه عند انتفائها ، فيذكر في مسائل مفردة لها .

                                                                                                                                            الشرط الثالث ، أن تضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ; من رأس ، أو يد ، أو رجل ، أو تخطيط ، سواء وضعته حيا أو ميتا ، وسواء أسقطته ، أو كان تاما . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا ولدت الأمة من سيدها ، فقد عتقت وإن كان سقطا ، وروى الأثرم ، بإسناده عن ابن عمر ، أنه قال : أعتقها ولدها ، وإن كان ولدها سقطا ، قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : أم الولد ، إذا أسقطت ، لا تعتق ؟ فقال : إذا تبين فيه يد ، أو رجل ، أو شيء من خلقه ، فقد عتقت . وهذا قول الحسن ، والشافعي . وقال الشعبي : إذا تلبث في الخلق الرابع ، فكان مخلقا ، انقضت به عدة الحرة ، وأعتقت به الأمة . ولا أعلم في هذا خلافا بين من قال بثبوت حكم الاستيلاد ، فأما إن ألقت نطفة ، أو علقة ، لم يثبت به شيء من أحكام الولادة ; لأن ذلك ليس بولد . وروى يوسف بن موسى ، أن أبا عبد الله قيل له : ما تقول في الأمة إذا ألقت مضغة أو علقة ؟ قال : تعتق . وهذا قول إبراهيم النخعي .

                                                                                                                                            وإن وضعت مضغة لم يظهر فيها شيء من خلق الآدمي ، فشهد ثقات من القوابل ، أن فيها صورة خفية ، تعلقت بها الأحكام ; لأنهن اطلعن على الصورة التي خفيت على غيرهن . وإن لم يشهدن بذلك ، لكن علم أنه مبتدأ خلق آدمي ; إما بشهادتهن ، أو غير ذلك ، ففيه روايتان ; إحداهما ، لا تصير به الأمة أم ولد ، ولا تنقضي به عدة الحرة ، ولا يجب على الضارب المتلف له الغرة ، ولا الكفارة . وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي ، وظاهر ما نقله الأثرم عن أحمد رضي الله عنه وظاهر كلام الحسن ، والشعبي ، وسائر من اشترط أن يتبين شيء فيه خلق الإنسان لأنه لم يبن فيه شيء من خلق الآدمي ، أشبه النطفة والعلقة . والثانية ، تتعلق به الأحكام الأربعة ; لأنه مبتدأ خلق آدمي ، أشبه إذا تبين .

                                                                                                                                            وخرج أبو عبد الله بن حامد رواية ثالثة ، وهو أن الأمة تصير بذلك أم ولد ، ولا تنقضي به عدة الحرة ; لأنه روي عن أحمد رضي الله عنه في الأمة إذا وضعت ، فمسته القوابل ، فعلمن أنه لحم [ ص: 420 ] ولم يتبين لحمه : تحتاط في العدة بأخرى ، ويحتاط بعتق الأمة . وظاهر هذا ، أنه حكم بعتق الأمة ، ولم يحكم بانقضاء العدة ; لأن عتق الأمة . يحصل للحرية ، فاحتيط بتحصيلها ، والعدة يتعلق بها تحريم التزوج وحرمة الفرج ، فاحتيط بإبقائها . وقال بعض الشافعية بالعكس : لا تجب العدة ، ولا تصير الأمة أم ولد ; لأن الأصل عدم كل واحد منهما ، فيبقى على أصله . ولا يصح ; لأن العدة كانت ثابتة ، والأصل بقاؤها على ما كانت عليه ، والأصل في الآدمي الحرية ، فتغلب ما يفضي إليها . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية