الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل

جريمة القتل

ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة ، قال الله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ سورة المائدة : 32 ] .

وقد أشكل فهم هذا على كثير من الناس ، وقال : معلوم أن إثم قاتل مائة أعظم عند الله من إثم قاتل نفس واحدة ، وإنما أتوه من ظنهم أن التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة ، واللفظ لم يدل على هذا ، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذه بجميع أحكامه .

وقد قال تعالى : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها [ سورة النازعات : 46 ] .

وقال تعالى : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار [ سورة الأحقاف : 35 ] .

وذلك لا يوجب أن لبثهم في الدنيا إنما كان هذا المقدار .

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله ، أي : مع العشاء كما جاء في لفظ آخر ، وأصرح من هذا قوله : من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ " قل هو الله أحد " فكأنما قرأ ثلث القرآن ، ومعلوم أن ثواب فاعل هذه الأشياء لم يبلغ ثواب المشبه به ، فيكون قدرهما سواء ، ولو كان قدر الثواب سواء لم يكن لمصلي العشاء والفجر جماعة في قيام الليل منفعة غير التعب والنصب ، وما أوتي أحد - بعد الإيمان - أفضل من الفهم عن الله ورسوله ، صلى الله عليه وسلم . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

فإن قيل : ففي أي شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة وقاتل الناس جميعا ؟

قيل : في وجوه متعددة :

أحدها : أن كلا منهما عاص لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مخالف لأمره متعرض لعقوبته ، وكل منهما قد باء بغضب من الله ولعنته ، واستحقاق الخلود في نار جهنم ، وإعداده عذابا عظيما ، وإنما التفاوت في درجات العذاب ، فليس إثم من قتل نبيا أو إماما عادلا أو عالما يأمر الناس بالقسط ، كإثم من قتل من لا مزية له من آحاد الناس .

[ ص: 149 ] الثاني : أنهما سواء في استحقاق إزهاق النفس .

الثالث : أنهما سواء في الجراءة على سفك الدم الحرام ، فإن من قتل نفسا بغير استحقاق ، بل لمجرد الفساد في الأرض ، أو لأخذ ماله : فإنه يجترئ على قتل كل من ظفر به وأمكنه قتله ، فهو معاد للنوع الإنساني .

ومنها : أنه يسمى قاتلا أو فاسقا أو ظالما أو عاصيا بقتله واحدا ، كما يسمى كذلك بقتله الناس جميعا .

ومنها : أن الله سبحانه جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، فإذا أتلف القاتل من هذا الجسد عضوا ، فكأنما أتلف سائر الجسد ، وآلم جميع أعضائه ، فمن آذى مؤمنا واحدا فكأنما آذى جميع المؤمنين ، وفي أذى جميع المؤمنين أذى جميع الناس ، فإن الله إنما يدافع عن الناس بالمؤمنين الذين بينهم ، فإيذاء الخفير إيذاء المخفور ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تقتل نفس ظلما بغير حق ، إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ؛ لأنه أول من سن القتل .

ولم يجئ هذا الوعيد في أول زان ولا أول سارق ولا أول شارب مسكر ، وإن كان أول المشركين قد يكون أولى بذلك من أول قاتل ؛ لأنه أول من سن الشرك ؛ ولهذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن لحي الخزاعي يعذب أعظم العذاب في النار ، لأنه أول من غير دين إبراهيم عليه السلام .

وقد قال تعالى : ولا تكونوا أول كافر به [ سورة البقرة : 41 ] .

أي فيقتدي بكم من بعدكم ، فيكون إثم كفره عليكم ، وكذلك حكم من سن سنة سيئة فاتبع عليها .

وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يجيء المقتول يوم القيامة ، ناصيته ورأسه بيده ، وأوداجه تشخب دما ، يقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ فذكروا لابن عباس التوبة ، فتلا هذه الآية : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها [ سورة النساء : 93 ] .

ثم قال : ما نسخت هذه الآية ولا بدلت ، وأنى له التوبة ؟ قال الترمذي : هذا حديث حسن .

[ ص: 150 ] وفيه أيضا عن نافع قال : نظر عبد الله بن عمر يوما إلى الكعبة ، فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن عند الله أعظم حرمة منك ، قال الترمذي : هذا حديث حسن .

وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال : أول ما ينتن من الإنسان بطنه ، فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل ، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم أهراقه فليفعل .

وفي صحيحه أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما .

وذكر البخاري أيضا عن ابن عمر قال : من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها : سفك الدم الحرام بغير حله .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه : سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر .

وفيهما أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض .

وفي صحيح البخاري عنه - صلى الله عليه وسلم - : من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما .

هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه ، فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن ؟ وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا ، فرآها النبي - صلى الله عليه وسلم - في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها ، فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم ؟ وفي بعض السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - : لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق .

التالي السابق


الخدمات العلمية