الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 332 ] النوع الخامس والثلاثون .

في آداب تلاوته وتاليه .

أفرده بالتصنيف جماعة ، منهم النووي في " التبيان " . وقد ذكر فيه - وفي شرح المهذب وفي الأذكار - جملة من الآداب ، وأنا ألخصها هنا ، وأزيد عليها أضعافها ، وأفصلها مسألة مسألة ليسهل تناولها .

مسألة : يستحب الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته : قال - تعالى - مثنيا على من كان ذلك دأبه يتلون آيات الله آناء الليل [ آل عمران : 113 ] .

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار . . .

وروى الترمذي ، من حديث ابن مسعود : من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها .

وأخرج من حديث أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : يقول الرب سبحانه وتعالى : من شغله [ ص: 333 ] القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه .

وأخرج مسلم من حديث أبي أمامة : اقرءوا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه .

[ ص: 334 ] وأخرج البيهقي من حديث عائشة : البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض .

وأخرج من حديث أنس : نوروا منازلكم بالصلاة وقراءة القرآن .

وأخرج من حديث النعمان بن بشير : أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن .

وأخرج من حديث سمرة بن جندب : كل مؤدب يحب أن تؤتى مأدبته ، ومأدبة الله القرآن فلا تهجروه .

وأخرج من حديث عبيدة المكي مرفوعا وموقوفا : يا أهل القرآن ، لا تتوسدوا القرآن واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار ، وأفشوه ، وتدبروا ما فيه لعلكم تفلحون .

[ ص: 335 ] وقد كان للسلف في قدر القراءة عادات : فأكثر ما ورد في كثرة القراءة : من كان يختم في اليوم والليلة ثماني ختمات : أربعا في الليل ، وأربعا في النهار .

ويليه : من كان يختم في اليوم والليلة أربعا .

ويليه : ثلاثا .

ويليه ختمتين .

ويليه ختمة .

وقد ذمت عائشة ذلك ، فأخرج ابن أبي داود : عن مسلم بن مخراق ، قال : قلت لعائشة : إن رجالا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثا ؟ .

فقالت : قرءوا ولم يقرءوا ، كنت أقوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام ، فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء ، فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغب ، ولا بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ .

ويلي ذلك من كان يختم في ليلتين
.

ويليه من كان يختم في كل ثلاث ، وهو حسن .

وكره جماعات الختم في أقل من ذلك : لما روى أبو داود والترمذي - وصححه - من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا : لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث .

وأخرج ابن أبي داود وسعيد بن منصور ، عن ابن مسعود موقوفا قال : لا تقرءوا القرآن في أقل من ثلاث .

وأخرج أبو عبيد ، عن معاذ بن جبل : أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث .

[ ص: 336 ] وأخرج أحمد وأبو عبيدة عن سعيد بن المنذر - وليس له غيره - قال : قلت : يا رسول الله أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال : نعم ، إن استطعت .

ويليه : من ختم في أربع ، ثم في خمس ، ثم في ست ، ثم في سبع ، وهذا أوسط الأمور وأحسنها ، وهو فعل الأكثرين من الصحابة وغيرهم .

أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اقرأ القرآن في شهر ؛ قلت : إني أجد قوة ، قال : أقرأه في عشر ؛ قلت : إني أجد قوة ، قال : اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك .

وأخرج أبو عبيد وغيره ، من طريق واسع بن حبان ، عن قيس بن أبي صعصعة - وليس له غيره - أنه قال : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ .

قال : في خمسة عشر
.

قلت : إني أجدني أقوى من ذلك .

قال : اقرأه في جمعة .

ويلي ذلك : من ختم في ثمان ، ثم في عشر ، ثم في شهر ، ثم في شهرين .

أخرج ابن أبي داود ، عن مكحول قال : كان أقوياء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرءون القرآن في سبع ، وبعضهم في شهر ، وبعضهم في شهرين ، وبعضهم في أكثر من ذلك .

[ ص: 337 ] وقال أبو الليث في " البستان " : ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين ، إن لم يقدر على الزيادة .

وقد روى الحسن بن زياد ، عن أبي حنيفة ، أنه قال : من قرأ القرآن في كل سنة مرتين ، فقد أدى حقه ; لأن النبي عرض على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين .

وقال غيره : يكره تأخير ختمه أكثر من أربعين يوما بلا عذر ، نص عليه أحمد ; لأن عبد الله بن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : في كم نختم القرآن ؟

قال : في أربعين يوما
. رواه أبو داود .

وقال النووي في " الأذكار " : المختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف ، فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ ، وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم ، أو فصل الحكومات ، أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة ، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ، ولا فوات كماله ; وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه ، من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة .

التالي السابق


الخدمات العلمية