الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مثل رجل له عبد رباه بين يديه

فمثل ذلك كمثل رجل له عبد تليد رباه بين يديه وله عليه رأفة الأمومة وعطف الأبوة فهو يحب أن يكون بين يديه لا يبرح حتى يكون في رعايته وكلاءته وهذا العبد يجول ويتردد فإذا خرج من المأمن نالته نكبة من عثرة إذا اشتد في سعيه فردده وربما شاكته شوكة وربما خدشته السباع بالبراثن والأنياب والسيد قد حذره ذلك فإذا لم يأخذ حذره نالته هذه الأشياء ففزع إلى الأدوية والمراهم يداوي نكباته وفزع إلى منقاش ينزع شوكته فهو يتردد في طلب هذه الأشياء للتداوي بها وهذا كله موجود عند سيده وهو أعلم بدائه وأرفق بمداواته وألطف فيتركه السيد في التردد حتى يعيا ويعجز ويأيس فإذا أيس [ ص: 110 ] من هذه الأشياء فزع إلى سيده طالبا من عنده دواءه وعلاجه فإذا صار إلى سيده بتلك الحال ضحك منه كأنه يقول جئتني بعدما اقتدرت وترددت في الاقتدار كالمستغني بما عندك فلما عجزت وأيست جئتني شئت أو أبيت وسيده جواد كريم حسن الخلق واسع الصدر وليس بكز ولا لئيم فيضحك إلى عبده بجهله وقلته وضعفه وعجزه وفقره

.فكذلك العبد أمره ربه أن يكون واقفا بين يديه مراقبا لمشيئاته فيه ساعيا في أمره يسعى العبد خائفا لمساخطه معظما لأموره شاكرا لأنعمه عارفا لمنته عالما بإحسانه لاحظا إلى فضله واثقا بما تكفل له من رزقه فذهب العبد فبرح من المقام وأعرض عن المراقبة وأقبل على نهمات نفسه حتى ضيع أمره وذهب في مساخطه كالدابة الحرون الجموح حرن على ربه في جميع أمره ونهيه فاستخف بحقه واستهان بأمره وعظم نفسه وتكبر بأحواله وكفر بنعمه وأنكر [ ص: 111 ] منته وجهل إحسانه وعمي عن فضله وتذبذب عقله في شأن ما تكفل له به ثم ذهب 59 يتردد في الصلاة والصوم والصدقة والحج والجهاد وأنواع أعمال البر يريد أن يأخذ نفسه من ربه وينجيها من عذابه بهذه الأشياء فأي خائب أخيب من هذا حيث يعمل مثل هذه الأشياء فلا يكون مفزعه إلى رحمته وافتقاره إلى مغفرته فهذا أحمق جاهل بربه أخاف أن يكله الله إلى عمله حتى يفضحه على رءوس الأشهاد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه (أن ليس أحد منكم ينجيه عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته

والعاقل المنتبه عقل هذا الباب فعمل جميع أعمال البر ورمى بها خلف ظهره ولسانه لا يفتر عن الدعاء والنداء عند التضرع وعينا قلبه شاخصتان إلى الله تعالى يغسله بماء الرحمة فيصلح حينئذ للمغفرة فعندها إذا قال اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ضحك الرب تبارك وتعالى اسمه كأنه يقول عبدي كان بين يدي فترك المقام فأذنب ثم ندم فجال وتردد فلم يجد عند أحد فرجا فأيس من الجميع ثم عاد إلي علم [ ص: 112 ] أنه لا يقدر أن يداويه من هذا إلا أنا لأني لم أجعل المغفرة بيد غيري وإذا ضحك إلى عبده لم يحاسبه

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (أفضل الشهداء عند الله تعالى الذين يلقون في الصف ولا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف الأعلى من الجنة يضحك إليهم الرب إن الرب إذا ضحك إلى قوم فلا حساب عليهم والمغفرة حجاب الرحمة فإذا ستر ذنب عبد وتخطى بذلك الستر فقد نجا من العذاب لأن الرأفة قد استكملت والعرض والحساب باق على العبد فإذا ضحك الله إليه نجا من العرض والحساب لأن الضحك من الجود فإذا استعمل على العبد جوده نجا وكأنه لم يذنب

التالي السابق


الخدمات العلمية