الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 156 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها غزا بسر بن أبي أرطاة بلاد الروم ، فوغل فيها حتى بلغ مدينة قسطنطينية ، وشتى ببلادهم فيما زعمه الواقدي ، وأنكر ذلك آخرون ، وقالوا : لم يكن بها مشتى لأحد . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير وفيها مات عمرو بن العاص بمصر ، ومحمد بن مسلمة . قلت : وسنذكر ترجمة كل منهما في آخرها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فولى معاوية بعد عمرو بن العاص على ديار مصر ولده عبد الله بن عمرو . قال الواقدي : فعمل له عليها سنتين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كانت في هذه السنة - أعني سنة ثلاث وأربعين - وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة وذلك أنهم صمموا ، كما قدمنا ، على الخروج على الناس في هذا الحين ، فاجتمعوا في قريب من ثلاثمائة ، عليهمالمستورد بن علفة ، فجهز إليهم المغيرة بن شعبة جندا عليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف ، فسار إليهم ، وقدم بين يديه أبا الرواغ في طليعة ، هي ثلاثمائة على عدة الخوارج ، فلقيهم أبو الرواغ بمكان يقال له : المذار . فاقتتلوا معهم ، فهزمتهم الخوارج ، ثم كروا عليهم ، فهزمتهم الخوارج ، ولكن لم يقتل أحد منهم ، فلزموا [ ص: 157 ] مكانهم في مقابلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم ، فما قدم عليهم إلا في آخر نهار بعد أن غربت الشمس ، فنزل وصلى بأصحابه ، ثم شرع في مدح أبي الرواغ ، فقال له : أيها الأمير ، إن لهم شدات منكرة ، فكن أنت ردء الناس ، ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك . فقال معقل بن قيس : نعم ما رأيت . فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت الخوارج على معقل وأصحابه ، فانجفل عنه عامة أصحابه ، فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال : يا معشر المسلمين ، الأرض الأرض . فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس منهم أبو الرواغ الشاكري ، فحمل عليهم المستورد بن علفة أمير الخوارج بأصحابه ، فاستقبلوهم بالرماح والسيوف ، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان ، فذمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار ، فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه قتالا شديدا ، والناس يتراجعون في أثناء الليل ، فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم وقال : لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم . فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج ، فرجعوا من حيث أتوا ، فسار معقل في طلبهم ، وقدم بين يديه أبا الرواغ في ستمائة ، فالتقوا بهم عند طلوع الشمس ، فثار إليهم الخوارج ، فتبارزوا ساعة ، ثم حملوا حملة رجل واحد ، فصبر لهم أبو الرواغ بمن معه ، وجعل يذمرهم وينهاهم عن الفرار ، ويحثهم على الصبر ، فصبروا وصدقوا في الثبات ، حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم ، فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم ، فما يكون دون [ ص: 158 ] قتلهم شيء فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة ، ووقعوا في أرض بهرسير ، وتبعهم أبو الرواغ ، ولحقه معقل بن قيس ، ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة ، فركب إليهم سماك بن عبيد نائب المدائن ، ولحقهم أبو الرواغ بمن معه من المقدمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي بها عمرو بن العاص ، ومحمد بن مسلمة ، رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي أبو عبد الله ، ويقال : أبو محمد . أحد رؤساء قريش في الجاهلية ، وهو الذي أرسلوه إلى النجاشي ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده ، فلم يجبهم إلى ذلك لعدله ، ووعظ عمرو بن العاص في ذلك ، فيقال : إنه أسلم على يديه . والصحيح أنه إنما أسلم قبل الفتح بستة أشهر هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدري . وكان أحد أمراء الإسلام ، وهو أمير غزوة ذات السلاسل ، وأمده رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدد ، عليهم أبو عبيدة ومعه الصديق وعمر الفاروق ، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمان ، فلم يزل عليها مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقره عليها الصديق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 159 ] وقد قال الترمذي : ثنا قتيبة ، ثنا ابن لهيعة ثنا مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : ثنا إسحاق بن منصور ، ثنا أبو أسامة ، عن نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة قال : قال طلحة بن عبيد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن عمرو بن العاص من صالحي قريش " . وفي الحديث الآخر " ابنا العاص مؤمنان " وفي الحديث الآخر " نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله " رووه في فضائل عمرو بن العاص

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن الصديق بعثه في جملة من بعث من أمراء الجيش إلى الشام ، فكان ممن شهد تلك الحروب ، وكانت له الآراء السديدة ، والمواقف الحميدة ، والأحوال السعيدة ، ثم بعثه عمر إلى مصر فافتتحها واستنابه عليها ، وأقره عليها عثمان بن عفان أربع سنين ، ثم عزله ، كما قدمنا ، وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فاعتزل عمرو بفلسطين ، وبقي في نفسه من عثمان ، رضي الله عنهما ، فلما قتل عثمان سار إلى معاوية ، فشهد مواقفه كلها بصفين وغيرها ، وكان هو أحد الحكمين ، ثم لما أن استرجع معاوية مصر وانتزعها من يد محمد بن أبي بكر الصديق استعمل عمرو بن العاص عليها ، فلم يزل نائبها إلى أن مات في هذه السنة على المشهور ، وقيل : إنه توفي سنة سبع وأربعين . وقيل : سنة ثمان [ ص: 160 ] وأربعين . وقيل : سنة إحدى وخمسين . رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان معدودا من دهاة العرب وشجعانهم وذوي آرائهم ، وله أمثال حسنة وأشعار جيدة . وقد روي أنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل . ومن شعره :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما     قضى وطرا منه وغادر سبة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، ثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أنا ابن لهيعة ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه قال : لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى ، فقال له ابنه عبد الله : لم تبكي ؟ أجزعا من الموت ؟ فقال : لا والله ، ولكن مما بعد الموت . فقال له : قد كنت على خير . فجعل يذكره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه الشام . فقال عمرو : تركت أفضل من ذلك كله ; شهادة أن لا إله إلا الله ، إنى كنت على ثلاثة أطباق ، ليس فيها طبق إلا عرفت نفسي فيه ، كنت أول شيء كافرا ، وكنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو مت حينئذ وجبت لي النار ، فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشد الناس حياء منه ، فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا راجعته فيما أريد ، حتى لحق بالله ; حياء منه ، فلو مت [ ص: 161 ] يومئذ قال الناس : هنيئا لعمرو ; أسلم وكان على خير فمات عليه ، نرجو له الجنة . ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء ، فلا أدري علي أم لي ، فإذا مت فلا تبكين علي باكية ، ولا تتبعني مادحا ولا نارا ، وشدوا علي إزاري فإني مخاصم ، وشنوا علي التراب شنا ، فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر ، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرا ، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها ; أستأنس بكم . وقد روى مسلم هذا الحديث في " صحيحه " من حديث يزيد بن أبي حبيب بإسناده نحوه ، وفيه زيادات على هذا السياق حسنة ، فمنها قوله : كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع به رسل ربي ، عز وجل . وفي رواية أنه بعد هذا حول وجهه إلى الجدار وجعل يقول : اللهم أمرتنا فعصينا ، ونهيتنا فما انتهينا ، ولا يسعنا إلا عفوك . وفي رواية أنه وضع يده على موضع الغل من عنقه ، ورفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم لا قوي فأنتصر ، ولا بريء فأعتذر ، ولا مستكبر بل مستغفر ، لا إله إلا أنت . فلم يزل يرددها حتى مات ، رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 162 ] وأما محمد بن مسلمة الأنصاري ، فإنه أسلم على يدي مصعب بن عمير قبل أسيد بن حضير وسعد بن معاذ ، شهد بدرا وما بعدها إلا تبوك ; فإنه استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في قول ، وقيل : استخلفه في قرقرة الكدر . وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف اليهودي ، وقيل : إنه الذي قتل مرحبا اليهودي يوم خيبر أيضا . وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو من خمس عشرة سرية ، وكان ممن اعتزل تلك الحروب بالجمل وصفين وغيرهما ، واتخذ سيفا من خشب . وقد ورد في حديث قدمناه أنه أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وخرج إلى الربذة . وكان من سادات الصحابة ، وكان هو بريد عمر إلى عماله ، وهو الذي شاطرهم عن أمره ، وله وقائع عظيمة وصيانة وأمانة بليغة ، رضي الله عنه ، واستعمله عمر على صدقات جهينة ، وقيل : إنه توفي سنة ست أو سبع وأربعين . وقيل غير ذلك . وقد جاوز السبعين ، وترك بعده عشرة ذكور وست بنات ، وكان أسمر شديد السمرة طويلا أصلع ، رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها عبد الله بن سلام ، أبو يوسف الإسرائيلي ، أحد أحبار اليهود ، كان حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في نخل له ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه ، فكنت فيمن انجفل إليه ، فلما رأيت وجهه [ ص: 163 ] عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول : " أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام " . وقد ذكرنا صفة إسلامه أول الهجرة ، وماذا سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسئلة النافعة الحسنة ، رضي الله عنه . وهو ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وهو ممن يقطع له بدخولها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية