الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الثالث : في التراحم في الحيطان والسقوف وغيرها ودفع الضرر في ذلك : وفي الكتاب إذا أرسل في أرضه نارا ، فوصلت إلى زرع جاره فأفسدته ، فإن كانت بعيدة يؤمن وصولها ، وإنما حملها ريح أو نحوها لم يضمن ; لأنه لم يفرط ، وإلا ضمن ; لأنه متسبب ، ومن قتل فديته على عاقلته ، قال ابن يونس : قال أشهب : لو قاموا للنار ليردوها فأحرقتهم فدمهم هدر - لا دية ولا غيرها . قال اللخمي : وافق أشهب ابن القاسم في النار ، وخالفه في الماء ، وقال : إن كان يسير الماء بالرد فأغفل حين تسريحه ضمن ، وإن وليه الخدمة ضمن ، وإن حبسه تحامل على الجسر بغير خرق ولا ضعف من الجسر ، لم يضمن وإن كانت أرض جاره محسرة فتحامل الماء بالريح أو لزيادة لم يضمن ; لأنه ليس من سببه .

                                                                                                                [ ص: 175 ] فرع : في الكتاب يمنع فتح الكوة يكشف منها الجار ، وكتب عمر - رضي الله عنه - أن يوقف على سرير فإن نظر إلى ما في دار جاره منع نفيا للضرر ، وإلا فلا ; لأنه تصرف في ملكه ، ولا يمنع من رفع البنيان وإن منع عنك الهواء أو الشمس ; لأنه تصرف يتوقع فيه غرض صحيح في ملكه ، بخلاف فتح الكوة ، ولأن الضرر لا يدفع عنك بضرره ، بل أنت بالضرر أولى لعدم الملك ، قال ابن يونس : قال ابن كنانة : إلا أن يكون رفعه يضر بجاره ولا نفع له فيمنع لتعين الفساد ، وفي كتاب تضمين الصناع لو كانت الكوة قديمة لم يعرض من له ، ولو أضرت لرضاهما بذلك ، وقيل : يمنع لرضاهما بما لا يحل ، وقال بعض أصحابنا : يمنع من سد الطاقات ببنيانه ، وكذلك إذا أوجب لظلام المنزل أو منع الهواء ، خلافا لما في المدونة . قال التونسي : إلا الذي في نصب الأسرة لعله في موضع يمكن فيه نصب الأسرة ، وأما المجارات فإنما يعتبر فيها إدراك القائم دار الجار فيمتنع وإلا فلا ، فإن بنى جوار الأندر ما يمنع مهب الريح للتذرية ، منعه ابن القاسم في الأندر المتقادم ; لثبوت حقه في الهواء وهو المقصود منه لتصفية الزرع وإصلاحه ، بخلاف المسكن مقصودة السترة والصون ، وجوزه عبد الملك ; لإمكان صرف منفعة الأندر إلى غير ذلك ، ومنع عبد الملك إحداث الأندر حول الجنان ; لأنه يضره بتبن التذرية كإحداث الحمام والفرن ، ولا يمنع الدقاق والغسال يؤذيان جارهما بضربهما لخفته ، بخلاف نتن - الدباغ ، ويمنع ضرر تبن الأندر بالجنان - [ ص: 176 ] ولو كان الجنان طارئا ، كما كان له قبل البناء منعه من وقع التبن في أرضه ، وإذا لم يكن لك منعه من الكوة ، فلك أن تبني في ملكك ما تسدها به قاله ابن القاسم ، كما لو رفع البناء وإن ستر الريح والشمس ، ومن له غرفة يطلع منها أو من كواها على جاره وهي قديمة قبل دار الجار ; لأن الجار إنما ملك معيبا ، وإن كانت أو الكوة محدثة أمر إزالتها أو سترها ، ولو كان بجارك يوم بنيت الغرفة أو كواها دار قائمة ، فأراد منعك لتوقع ضرره إذا بنى ليس له ذلك قبل البناء ولا بعده ; لأنها منفعة سبقته إليها ، وقال مطرف : له منعك قبل البناء وبعده لنفي الضرر عنه ، فلو سكت قبل البناء له المقال بعده ، إلا أن تكون اشتريت الغرفة على ذلك ، وإنما له منعك في إحداثها ، قال عبد الملك : إذا باع داره وقد أحدث عليه جاره الكوة أو مجرى ماء أو غيره فلم يخاصم حتى باع ، ليس للمشتري القيام ; لأنه إنما اشترى معيبا فحقه ساقط في العيب والضرر ، فلو خاصم ولم يتم له الحكم حتى باع فللمشتري القيام ; لأنه تنزل منزلته ، قال التونسي : كيف يصح البيع قبل الحكم وهو شراء خصومة ، إلا أن يريد أنه لا خصومة في ذلك ، وإن الأمر توجه للبائع فباع وأعلم المشتري أن له سد ما أحدث عليه . وفي الكتاب ما أحدثه في عرصته من فرن أو حمام أو رحى ماء أو كير الحديد أو بئر أو كنيف ، منع من ذلك ما أضر منه بالجار ، واستخف اتخاذ التنور ، قال سحنون : إذا قال أسد الكوة من وراء الباب أو بلبنة منع ; لأنه يشهد له بعد مدة ، فيقال : لم يزل هذا الباب هاهنا .

                                                                                                                [ ص: 177 ] فرع : قال اللخمي : إذا أخذت إلى دارك شيئا مما بين الأندر من الرحاب والشوارع جاز ، إلا أن يضر بأهل الموضع أو المارة فيهدم قاله : مالك ; لأن أصله على التمليك بالإحياء حتى يتعين الضرر ، وعنه الكراهة إن لم يضر ، فإن نزل مضى وهو ظاهر قول ابن القاسم ، ومنعه سحنون وقال : يهدم ; لقوله عليه السلام : " من اقتطع من طريق المسلمين أو أفنيتهم شبرا من الأرض طوقه الله يوم القيامة سبع أرضين " وليس هو في الصحيح ، وللجواز قوله عليه السلام في البخاري إذا تشاحوا في الطريق فسبعة أذرع .

                                                                                                                فرع : قال التونسي : قيل : من دعا إلى قسمة بور القرية الذي يرتفق به أجيب ; لأنه حقه كفناء الدار بعد قسمة البيوت ، وقيل : لا كالشارع ، وقيل : إن كان داخلا في القرية وهي محتفة به قسم ، وإلا فلا .

                                                                                                                فرع : قال : قال أشهب : إذا حفرت في دارك ما يضر بجارك ليس لك ذلك - إذا وجدت منه بدا ولم تضطر إليه نفيا للضرر ، وإلا فلك ; لأنه يضر بك تركه ، كما يضر به فعله وأنت مقدم بالملك ، ومنعه ابن القاسم وهو أولى ; لأن الجار سبق [ ص: 178 ] إلى تلك المنفعة ، فلا تفسدها عليه .

                                                                                                                فرع : قال : ليس لك في الزقاق غير النافذ فتح باب ولا نقبه ، لقوة حق أهله فيه بانحصاره لهم ، ولك ذلك في النافذ ما لم تضيق الفناء ، ومنعه سحنون إذا كان قبالة باب رجل ، وإلا جاز ، ولك فتح حوانيت في دارك للشارع النافذ كالباب ، قاله : ابن القاسم في المدونة ; لأن أصل الشوارع على الإحياء حتى يتعين الضرر ، وله تحويل بابه في بئر النافذ حيث لا يضر بجاره ، ومنع سحنون الحانوت في النافذ إذا أضر بالجار بجلوس الناس عليه .

                                                                                                                فرع : قال : قال أصبغ : لك شجرات في أرض رجل أراد التحجير على أرضه بجدار ، منع إن كانت مجتمعة لا يضر به تركها في القرب والبعد والسهولة ، وإلا فلا ; لأن الضرر إذا تعين على الشريكين حمل على أيسرهما نصيبا ، ويفتح لك بابا إليها ويكون غلقه بيدك إن طلبت ذلك ، وإن كانت شجر كثيرة غياضا ليس له التحجير عليها ; لأن أكثر الضرر عليك .

                                                                                                                فرع : قال : إذا أضرت شجرة جارك بجدارك وهي أقدم من جدارك على ما هو عليه اليوم من الانتشار لا تقطع ; لأنه إنما ملكت معيبا ، فإن زادت الأغصان بعد بناء الجدار شمر ما أضر بالجدار مما حدث بعد البناء ; لأنه غير المدخول على ضرره ، وقال عبد الملك : إذا كانت أقدم لا يتعرض لما زاد لدخوله على الزيادة ، [ ص: 179 ] وإن كانت محدثة قطع منها ما أضر ، وأما الشجر التي تكون في الأرض بميراث أو شراء أو قسمة فامتدت حتى سترت الأرض بالظل ، فلا قول لصاحب الأرض ; لأن الشجر هذا شأنها في الأرض ، ووافقنا ( ش ) غير أن بعض الشافعية قال : إذا كانت أغصان الشجرة الحادثة بعد البناء لينة يمكن كفها بلا قطع لإزالة الضرر بالكف وإن لم يكن فلا يجب القطع بل يؤمر بإزالة الضرر ، فلعله يؤثر قطع الشجرة من أصلها لتبقى له الأغصان طوالا ، فإن امتنع فهل للمضرور الإزالة إن لم يكن قطع بخلا بالقيمة فله ، وإلا فلا بل للحاكم ، فلو انتقلت للدار المضرورة من صاحب الشجرة في ابتداء نشأتها ثم عظمت حتى أظلت ، لا مقال له لدخوله على ذلك ، وما أظن أصحابها يخالفونه في هذا الفقه ، فإنه مقتضى القواعد ، وقد قال ابن يونس : قال مطرف : إذا حدث لها أغصان بعد بنيان الجدار تضر بالجدار ، شمر ما أضر بالجدار فقط مما حدث ، وقال عبد الملك : يترك وإن أضر ; لأنه قد علم أن هذا شأن الشجر ودخل عليه ، وكان هذا من حريمها قبل بناء الجدار ، وفي كتاب ابن حبيب : إن عظمت الشجرة طولا إلى السماء فلا مقال كالبنيان يستر الريح والشمس ، قال أصبغ : لك شجرة في أرض رجل فعظمت ارتفاعا أو انبساطا حتى أضرت بالأرض لا قول لصاحب الأرض .

                                                                                                                فرع : قال : قال ابن القاسم : إذا نبع من بئرك أو عينك في أرض جارك من غير [ ص: 180 ] سبب منه ليس لك سدها ، وإن تسبب في ذلك سددتها ، وقال أصبغ : إذا خرج في أرض جارك قضيب من شجرة في حائطك من تحت الأرض فصار شجرة ، خير جارك بين قلعها أو يعطي لك قيمتها ; لأنها من غير مالك المعصوم والماء لا يملك إلا بالحوز ، وما خرج منه لجارك لم تحزه ، ولو كانت إذا قطعت وغرست نبتت ، فلك قلعها ولا يخير . وقال في المجموعة : يعطيك قيمتها مقلوعة ما لم يضر بك بأن تشرب من عندك ، وإلا فلك قلعها إلا أن يقطع عروقها المتصلة بشجرك وتعطى قيمتها مقلوعة .

                                                                                                                فرع : قال : قال مطرف : يمنع ما أضر بالناس من إحداث الأبرجة تضر بالزرع ، أو النحل تضر بالشجر ، وكذلك الدجاج والإوز الطيارة بخلاف الماشية ; لأن الاحتراس منها ممكن ودخل الناس عليه في العادة ، وجوز ابن القاسم اتخاذ النحل والحمام قياسا على الماشية ، وعلى أهل القرية حفظ زرعهم وشجرهم .

                                                                                                                فرع : قال : قال مالك : إذا سقط الجدار بينكما وهو لأحدكما لم يجبر على بنائه ; لأنه لا يجب عليه سترك بملكه ، أو لكما جبر الممتنع منكما على البناء مع صاحبه ; لأنه من أحكام الشركة ، وفي العتبية إذا كان لأحدهما فهدمه ، أو انهدم بغير فعله وترك رده ضررا - وهو قادر على بنائه ، جبر على رده ، فإن عجز ستر الآخر على نفسه بالبناء في حقه ، وإن هدمه للضرر أجبر على الإعادة ، أو هدمه لنفعه ثم عجز أو استغنى عنه لم يجبر ، قال ابن حبيب : لا يجبر عند ابن القاسم إذا انهدم ، ويجبر عند ابن كنانة ، وأجمعوا على الإجبار إذا هدمه [ ص: 181 ] ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ للضرر ، وعن ابن كنانة لا يجبر‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ إذا كان لهما أيضا ; لأن الإنسان لا يجبر على تجديد ملكه . وفي المجموعة إذا كان بينهما وانهدم بغير فعله لا يجبر ويخير في المشترك بين البناء والبيع والمقاسمة جمعا بين المصالح .

                                                                                                                فرع : قال : إذا اختلفتما في جدار بينكما وعقد بنائه إليكما فهو لكما بعد أيمانكما ، لاستوائكما في السبب ، أو لأحدكما فقط فهو له ، أو منقطعا عنكما فلكما لاستوائكما ، وإن كان لأحدكما فيه كوة فهو لمن فيه مرافقه ، وإن كانت الكوة لكما فهو بينكما ، ولو كان لأحدكما فيه خشب - ولا عقد لأحدكما ، فهو لمن عليه حمله ، وإن كان حملكما عليه ، فهو بينكما . فإن كان لأحدكما عشر خشبات وللآخر سبعة ، ترك على حاله لا يزيد أحدكما خشبا إلا برضى صاحبه ، وإن انهدم بنيانه جميعا على حاله ، ويقال للممتنع : بع الدار كلها ممن يبني ، واختلف قول سحنون في الحمل هل هو دليل أم لا ؟ وفي كتاب ابن سحنون إذا كان وجه البناء لأحدهما وللآخر ظهره ، فهو بينهما ولم يجعل وجه البناء دليلا والحائط لمن له الباب فيه ، وإن لم يعلم لمن الباب فهو بينهما نصفان ، وقال أشهب : إذا كان لأحدهما عليه عشر خشبات وللآخر خمسة أو خشبة فهو بينهما نصفان ، وقال : من خالفنا هو لصاحب الكثير إلا موضع الخشبة ، وقال سحنون : في الكوى غير المنفوذة نظر ، قال سحنون : إذا كان حائط حذوه حائط وعقد أحدهما لأحدكما ، وعقد الآخر لجهة الآخر ، قضي لكل واحد بالحائط الذي إليه عقده ، وإذا أراد من له العقد وعليه حمل لغيره - البناء على الحائط ، امتنع إن ضر بحمل الآخر ، وإلا فلا ، وإذا [ ص: 182 ] كان حائط بينكما فأردت الحمل عليه ما يمنع الآخر حمل مثله عليه يمتنع ، إلا أن يأذن لك ، وإن لم يمنعه من حمل مثله جاز وإن لم يأذن ، قال عبد الملك : لا ، فإن أردت أن تحمل عليه ما لا يحمل الحائط مثله للآخر ويضعف الجدار وأردت هدمه وبناءه للحمل عليه ما يحمل عليه للآخر مثله ، لك ذلك وإن كره ; لأنك تسعى في مصلحتكما ويبقى الجدار بينكما كما كان ، قال سحنون : إذا كان لكما عليه خشب وخشبك أسفل من خشبه فأردت رفعه قبالته ، لك ذلك وإن كره ، فإن أنكر صاحب الأعلى أن يكون لصاحب الأسفل من فوق خشبه شيء صدق مع يمينه ; لحوزه لما فوق خشب الأسفل .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية