الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء


                [ ص: 261 ] ثم الخطاب ، إما أن يرد باقتضاء الفعل مع الجزم ، وهو الإيجاب ، أو لا مع الجزم ، وهو الندب ، أو باقتضاء الترك مع الجزم ، وهو التحريم . أو لا مع الجزم ، وهو الكراهة . أو بالتخيير ، وهو الإباحة . فهي حكم شرعي ، إذ هي من خطاب الشرع ، خلافا للمعتزلة ، لأنها انتفاء الحرج ، وهو قبل الشرع ، وفي كونها تكليفا خلاف .

                التالي السابق


                قوله : " ثم الخطاب ، إما أن يرد باقتضاء الفعل " إلى آخره .

                هذا موضع قسمة أحكام التكليف التي وعدنا بها أول الفصل .

                وتقريرها : أن خطاب الشرع ، إما أن يرد باقتضاء الفعل ، أو باقتضاء الترك ، أو بالتخيير بين الفعل والترك .

                فإن ورد باقتضاء الفعل ، فهو إما مع الجزم أو لا ، فإن كان اقتضاؤه الفعل مع الجزم - وهو القطع المقتضي للوعيد على الترك - فهو الإيجاب نحو : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 ] .

                وإن لم يكن اقتضاء الفعل مع الجزم ، فهو الندب ، نحو : وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم [ النساء : 6 ] ، وقوله - عليه السلام - : استاكوا . [ ص: 262 ] فإن ورد الخطاب باقتضاء الترك ، إما مع الجزم المقتضي للوعيد على الفعل وهو التحريم ، نحو : لا تأكلوا الربا [ آل عمران : 130 ] ، ولا تقربوا الزنا [ الإسراء : 32 ] .

                أو لا مع الجزم ، وهو الكراهة ، كقوله - عليه السلام - : إذا توضأ أحدكم ، فأحسن وضوءه ، ثم خرج عامدا إلى المسجد ، فلا يشبك بين أصابعه ، فإنه في صلاة رواه ابن ماجه والترمذي . والنواهي التي أريد بها الكراهة كثيرة .

                وإن ورد الخطاب بالتخيير ، فهو الإباحة ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن الوضوء من لحم الغنم : إن شئت ، فتوضأ ، وإن شئت ، فلا تتوضأ وأمثال هذه الأحكام كثيرة مشهورة في الشرع .

                قوله : " فهي " أي : الإباحة " حكم شرعي " ، لأنها " من خطاب الشرع " أي : مقتضاه كما سبق تقريره ، وإذا كانت من مقتضى خطاب الشرع ، كانت حكما شرعيا ، كالندب والكراهة .

                وبيان أنها من خطاب الشرع ، هو ما ذكرناه ، من انقسام خطاب الشرع إلى اقتضاء وتخيير ، ومورد القسمة مشترك بين أقسامه ، " خلافا للمعتزلة " فإنهم قالوا : ليست الإباحة حكما شرعيا " لأنها " عبارة عن " انتفاء الحرج " في الفعل " وهو " معلوم بالعقل " قبل الشرع " لأن شرب الماء ، والتنفس في الهواء ، وأكل الطيبات ، ولبس [ ص: 263 ] الناعمات ، كان الحرج فيه منتفيا قبل الشرع ، وهو بعد الشرع على ما كان ، ولو كانت من أحكام الشرع ، كان الشرع هو الذي أنشأها ، كالوجوب والندب .

                والجواب : لا نسلم أن الإباحة انتفاء الحرج ، بل هي تخيير شرعي يلزم عنه انتفاء الحرج ، وإن سلمنا أنها انتفاء الحرج ، لكن إن عنيتم بانتفاء الحرج المستفاد من تخيير الشرع ، فهي شرعية كما قلنا . وإن عنيتم أنه المستفاد من حكم العقل ، فهو مبني على أن العقل حاكم بالتحسين والتقبيح ، وأن الأشياء قبل الشرع على الإباحة ، وهما أصلان ممنوعان ، وقولهم : لو كانت شرعية ، لكان هو الذي أنشأها ، قلنا : كذلك نقول : الشرع هو الذي أنشأها ، ولم تكن موجودة قبل الشرع ، بناء على أن الأفعال قبله على الحظر . والتنفس في الهواء أمر طبعي ضروري لا يدخل تحت التكليف . وإن قلنا : إن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة ، فذلك عندنا بدليل سمعي ، فهو مستند إلى أخبار الشرع ، فهو من حكمه تبين لنا أن ذلك بإخباره ، ثم استمر حتى ورد الشرع . وإن سلمنا أن إباحتها قبل الشرع عقلية ، لكنا نقول : إباحة العقل انتهت بورود الشرع ، والإباحة الثابتة بالشرع أنشأها الشرع ، مثل العقلية لا نفسها ، وذلك لأننا قد بينا غير هاهنا أن العقل ينعزل بورود الشرع من كل تصرف لم يفوضه الشرع إليه ، لأنه مقدمة بين يدي الشرع .

                قوله : " وفي كونها " أي : في كون الإباحة " تكليفا خلاف " .

                قلت : قد حكينا الخلاف في الندب والكراهة : هل هما تكليف أم لا ؟ وإذا خرج الخلاف فيهما مع كونهما من خطاب الاقتضاء ، فخروجه في الإباحة مع أنها من خطاب التخيير أولى ، مع أن الخلاف في كونها تكليفا لفظي ، إذ من قال : ليست [ ص: 264 ] تكليفا ، نظر إلى أنه ليس فيها مشقة جازمة ، كمشقة الواجب والمحظور ، ولا غير جازمة ، كما بينا في مشقة المندوب والمكروه ، وهي مشقة فوات الفضيلة ، إذ لا فضيلة في المباح لذاته ، يشق على المكلف فواتها بتركه ، ومن قال : هي تكليف - وهو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني - أراد ; أنه يجب اعتقاد كونه مباحا ، وهذا لا يمنعه الأول ، والأستاذ لا يمنع أن لا مشقة في المباح ، فتبين أن النزاع لفظي ، لعدم وروده على محل واحد ، إذ الأول يقول : الإباحة لا مشقة فيها ، والأستاذ يقول : يجب اعتقاد أن المباح ليس واجبا ، ولا محظورا ، ولا مندوبا ، ولا مكروها .




                الخدمات العلمية