الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 601 ] 339 - الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة } ( 1 ) .

                                        التالي السابق


                                        وهؤلاء الثلاثة مباحو الدم بالنص . وقوله عليه السلام " يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " كالتفسير لقوله " مسلم " وكذلك " المفارق للجماعة " كالتفسير لقوله " التارك لدينه " والمراد بالجماعة : جماعة المسلمين ، وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل ، واختلف الفقهاء في المرأة : هل تقتل بالردة ، أم لا ؟ ومذهب أبي حنيفة : لا تقتل ومذهب غيره : تقتل وقد يؤخذ من قوله " المفارق للجماعة " بمعنى المخالف لأهل الإجماع فيكون متمسكا لمن يقول : مخالف الإجماع كافر وقد نسب ذلك لبعض الناس وليس ذلك بالهين ، وقد قدمنا الطريق في التكفير فالمسائل الإجماعية : تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع ، كوجوب الصلاة مثلا ، وتارة لا يصحبها التواتر ، فالقسم الأول : يكفر جاحده ، [ ص: 602 ] لمخالفته المتواتر ، لا لمخالفته الإجماع .

                                        والقسم الثاني : لا يكفر به وقد وقع في هذا المكان من يدعي الحذق في المعقولات ، ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالفة في حدوث العالم من قبيل مخالفة الإجماع . وأخذ من قوله من قال " إنه لا يكفر مخالف الإجماع " : أن لا يكفر هذا المخالف في هذه المسألة وهذا كلام ساقط بالمرة ، إما عن عمى في البصيرة ، أو تعام ; لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة . فيكفر المخالف بسبب مخالفته النقل المتواتر لا بسبب مخالفته الإجماع .

                                        وقد استدل بهذا الحديث على أن تارك الصلاة لا يقتل بتركها ، فإن ترك الصلاة ليس من هذه الأسباب - أعني : زنا المحصن ، وقتل النفس ، والردة - وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم إباحة الدم في هذه الثلاثة بلفظ النفي العام ، والاستثناء منه لهذه الثلاثة وبذلك استدل شيخ والدي الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي في أبياته التي نظمها في حكم تارك الصلاة . أنشدنا الفقيه المفتي أبو موسى هارون بن عبد الله المهراني قديما ، قال أنشدنا الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي لنفسه :

                                        خسر الذي ترك الصلاة وخابا وأبى معادا صالحا ومآبا إن كان يجحدها فحسبك أنه
                                        أمسى بربك كافرا مرتابا أو كان يتركها لنوع تكاسل
                                        غطى على وجه الصواب حجابا فالشافعي ومالك رأيا له
                                        إن لم يتب حد الحسام عقابا وأبو حنيفة قال يترك مرة
                                        هملا ويحبس مرة إيجابا والظاهر المشهور من أقواله
                                        تعزيره زجرا له وعقابا

                                        [ ص: 603 ] إلى أن قال :

                                        والرأي عندي أن يؤدبه الإما م بكل تأديب يراه صوابا
                                        ويكف عنه القتل طول حياته حتى يلاقي في المآب حسابا
                                        فالأصل عصمته إلى أن يمتطي إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا
                                        الكفر أو قتل المكافي عامدا أو محصن طلب الزنا فأصابا

                                        فهذا من المنسوبين إلى أتباع مالك ، اختار خلاف مذهبه في ترك قتله . وإمام الحرمين - أبو المعالي الجويني - استشكل قتله في مذهب الشافعي أيضا . وجاء بعض المتأخرين ممن أدركنا زمنه فأراد أن يزيل الإشكال . فاستدل بقوله عليه السلام { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } ووجه الدلالة منه : أنه وقف العصمة على مجموع الشهادتين ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة والمرتب على أشياء لا يحصل إلا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها . وهذا إن قصد به الاستدلال بالمنطوق - وهو قوله عليه السلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى إلخ " فإنه يقتضي بمنطوقه : الأمر بالقتال إلى هذه الغاية ، فقد وهل وسها ; لأنه فرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه فإن " المقاتلة " مفاعلة ، تقتضي الحصول من الجانبين ولا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة إذا قوتل عليها - إباحة القتل عليها من الممتنع عن فعلها إذا لم يقاتل ، ولا إشكال بأن قوما لو تركوا الصلاة ونصبوا القتال عليها : أنهم يقاتلون . إنما النظر والخلاف : فيما إذا تركوا إنسانا من غير نصب قتال : هل يقتل أم لا ؟ فتأمل الفرق بين المقاتلة على الصلاة والقتل عليها ، وأنه لا يلزم من إباحة المقاتلة عليها إباحة القتل عليها ، وإن كان أخذ هذا من لفظ آخر الحديث وهو ترتيب العصمة على فعل ذلك : فإنه يدل بمفهومه على أنها لا تترتب بفعل بعضه : هان الخطب ; لأنها دلالة مفهوم والخلاف فيها معروف مشهور وبعض من ينازعه في هذه المسألة لا يقول [ ص: 604 ] بدلالة المفهوم ، ولو قال بها فقد رجح عليها دلالة المنطوق في هذا الحديث .




                                        الخدمات العلمية