الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        341 - الحديث الثالث : عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال { انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر ، وهي يومئذ صلح ، فتفرقا ، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل - وهو يتشحط في دمه قتيلا - فدفنه ، ثم قدم المدينة ، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كبر ، كبر - وهو أحدث القوم - فسكت فتكلما ، فقال : أتحلفون وتستحقون قاتلكم ، أو [ ص: 605 ] صاحبكم ؟ قالوا : وكيف نحلف ، ولم نشهد ، ولم نر ؟ قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا قالوا : كيف بأيمان قوم كفار ؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده . وفي حديث حماد بن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ، قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قالوا : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ؟ قالوا : يا رسول الله ، قوم كفار وفي حديث سعيد بن عبيد فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة } .

                                        التالي السابق


                                        فيه مسائل ، الأولى : " حثمة " بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة ، و " حويصة " بضم الحاء المهملة وسكون الياء ، وقد تشدد مكسورة ، و " محيصة " بضم الميم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وقد تشدد .

                                        الثانية : هذا الحديث أصل في القسامة وأحكامها ، و " القسامة " بفتح القاف : هي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللوث . وقيل : إنها في [ ص: 606 ] اللغة اسم للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدم .

                                        وموضع جريان القسامة : أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله ، ولا تقوم عليه بينة ويدعي ولي القتيل قتله على واحد أو جماعة ، ويقترن بالحال : ما يشعر بصدق الولي ، على تفصيل في الشروط عند الفقهاء أو بعضهم ، ويقال له " اللوث " فيحلف على ما يدعيه .

                                        الثالثة : قد ذكرنا " اللوث " ومعناه ، وفرع الفقهاء له صورا : منها : وجدان القتيل في محلة ، أو قرية بينه وبين أهلها عداوة ظاهرة ووصف بعضهم القرية ههنا : بأن تكون صغيرة . واشترط : أن لا يكون معهم ساكن من غيرهم ، لاحتمال أن القتل من غيرهم حينئذ . الرابعة : في الحديث " وهو يتشحط في دمه قتيلا " وذلك يقتضي وجود الدم صريحا ، والجراحة ظاهرة . ولم يشترط الشافعية في اللوث " لا جراحة ولا دما ، وعن أبي حنيفة : أنه إن لم تكن جراحة ولا دم فلا قسامة ، وإن وجدت الجراحة ثبتت القسامة ، وإن وجد الدم دون الجراحة ، فإن خرج من أنفه فلا قسامة ، وإن خرج من الفم ، أو الأذن ثبتت القسامة هكذا حكى واستدل الشافعية بأن القتل قد يحصل بالخنق وعصر الخصية ، والقبض على مجرى النفس فيقوم أثرهما مقام الجراحة . الخامسة : " عبد الرحمن بن سهل " هو أخو القتيل ، " ومحيصة وحويصة " ابنا مسعود : ابنا عمه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكبر بقوله " كبر كبر " فيقال في هذا : إن الحق لعبد الرحمن لقربه والدعوى له ، فكيف عدل عنه ؟ وقد يجاب عن هذا : بأن الكلام ليس هو حقيقة الدعوى التي يترتب عليها الحكم ، بل هو كلام لشرح الواقعة ، وتبيين حالها ، أو يقال : إن عبد الرحمن يفوض الكلام والدعوى إلى من هو أكبر منه .

                                        السادسة : مذهب أهل الحجاز ، أن المدعي في محل القسامة يبدأ به في اليمين ، كما اقتضاه الحديث ، ونقل عن أبي حنيفة خلافه وكأنه قدم المدعي ههنا - على خلاف قياس الخصومات - بما انضاف إلى دعواه من شهادة اللوث ، مع عظم قدر الدماء ، ولينبه على أنه ليس كل واحد من هذين المعنيين بعلة مستقلة بل ينبغي أن يجعل كل واحد جزء علة .



                                        [ ص: 607 ] السابعة : اليمين المستحقة في القسامة : خمسون يمينا وتكلم الفقهاء في علة تعدد اليمين في جانب المدعي فقيل : لأن تصديقه على خلاف الظاهر ، فأكد بالعدد ، وقيل : سببه تعظيم شأن الدم ، وبني على العلتين : ما إذا كانت الدعوى في غير محل اللوث ، وتوجهت اليمين على المدعى عليه ففي تعددها خمسين : قولان للشافعي .



                                        الثامنة : قوله عليه السلام { فتبرئكم يهود بخمسين يمينا } فيه دليل على أن المدعي في محل القسامة إذا نكل : أنه تغلظ اليمين بالتعداد على المدعى عليه . وفي هذه المسألة طريقان إحداهما : إجراء قولين فإن نكوله يبطل اللوث ، فكأن لا لوث .

                                        والثانية : - وهي الأصح - : القطع بالتعدد للحديث فإنه جعل أيمان المدعى عليهم كأيمان المدعين . .



                                        التاسعة : قوله " تستحقون قاتلكم ، أو صاحبكم " وفي رواية " دم صاحبكم " يستدل به من يرى القتل بالقسامة ، وهو مذهب مالك وللشافعي قولان ، إذا وجد ما يقتضي القصاص في الدعوى ، والمكافأة في القتل :

                                        أحدهما : كمذهب مالك ، وهو قديم قوليه ، تشبيها لهذه اليمين المردودة .

                                        والثاني : وهو جديد قوليه - أن لا يتعلق بها قصاص ، واستدل له من الحديث بقوله عليه السلام { إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب } فإنه يدل على أن المستحق دية لا قود ; ولأنه لم يتعرض للقصاص ، والاستدلال بالرواية التي فيها " فيدفع برمته " أقوى من الاستدلال بقوله عليه السلام " فتستحقون دم صاحبكم " ; لأن قولنا " يدفع برمته " يستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل . ولو أن الواجب الدية لتبعد استعمال هذا اللفظ فيها ، وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر ، والاستدلال بقوله " دم صاحبكم " أظهر من الاستدلال بقوله " فتستحقون قاتلكم ، أو صاحبكم " ; لأن هذا اللفظ الأخير لا بد فيه من إضمار ، فيحتمل أن يضمر " دية صاحبكم " احتمالا ظاهرا وأما بعد التصريح بالدم : فتحتاج إلى [ ص: 608 ] تأويل اللفظ بإضمار " بدل صاحبكم " والإضمار على خلاف الأصل ، ولو احتيج إلى إضمار لكان حمله على ما يقتضي إراقة الدم أقرب ، والمسألة مستشنعة عند المخالفين لهذا المذهب أو بعضهم فربما أشار بعضهم إلى احتمال أن يكون " دم صاحبكم " هو القتيل ، لا القاتل ، ويردده قوله " دم صاحبكم أو قاتلكم " .

                                        العاشرة : لا يقتل بالقسامة عند مالك إلا واحد ، خلافا للمغيرة بن عبد الرحمن من أصحابه ، وقد يستدل لمالك بقوله عليه السلام { يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته } فإنه لو قتل أكثر من واحد ، لم يتعين أن يقسم على واحد منهم . الحادية عشرة : قوله " برمته " مضموم الراء المهملة مشدد الميم المفتوحة ، وهو مفسر بإسلامه للقتل ، وفي أصله في اللغة قولان أحدهم : إن " الرمة " حبل يكون في عنق البعير ، فإذا قيد أعطي به .

                                        والثاني : إنه حبل يكون في عنق الأسير ، فإذا أسلم للقتل سلم به .



                                        الثانية عشرة : إذا تعدد المدعون في محل القسامة ، ففي كيفية أيمانهم قولان للشافعي :

                                        أحدهما : أن كل واحد يحلف خمسين يمينا .

                                        الثاني : أن الجميع يحلفون خمسين يمينا ، وتوزع الأيمان عليهم ، وإن وقع كسر تمم ، فلو كان الوارث اثنين مثلا ، حلف كل واحد خمسة وعشرين يمينا ، وإن اقتضى التوزيع كسرا في صورة أخرى - كما إذا كانوا ثلاثة - كملنا الكسر ، فحلف سبعة عشر يمينا .

                                        الثالثة عشرة : قوله عليه السلام " يحلف خمسون منكم " قد يؤخذ منه مسألة ما إذا كانوا أكثر من خمسين . .



                                        الرابعة عشرة : الحديث ورد بالقسامة في قتيل حر ، وهل تجري القسامة في بدل العبد ؟ فيه قولان للشافعي وكأن منشأ الخلاف : أن هذا الوصف - أعني الحرية - هل له مدخل في الباب ، أو اعتبار ، أم لا ؟ فمن اعتبره يجعله جزءا من العلة ، إظهارا لشرف الحرية ، ومن لم يعتبره ، قال : إن السبب في القسامة : إظهار الاحتياط في الدماء والصيانة من إضاعتها . [ ص: 609 ] وهذا القدر شامل لدم الحر ودم العبد ، وألغي وصف " الحرية " بالنسبة إلى هذا المقصود ، وهو جيد . .



                                        الخامسة عشرة : الحديث وارد في قتل النفس ، وهل يجري مجراه ما دونها من الأطراف والجراح ؟ مذهب مالك : لا ، وفي مذهب الشافعي قولان ، ومنشأ الخلاف فيها أيضا : ما ذكرناه من أن هذا الوصف - أعني كونه نفسا - هل له أثر أو لا ؟ وكون هذا الحكم على خلاف القياس مما يقوي الاقتصار على مورده . .



                                        السادسة عشرة : قيل فيه : إن الحكم بين المسلم والذمي كالحكم بين المسلمين في الاحتساب بيمينه ، والاكتفاء بها ، وأن يمين المشرك مسموعة على المسلمين ، كيمين المسلم عليه ومن نقل من الناس عن مالك : أن أيمانهم لا تسمع على المسلمين كشهادتهم فقد أخطأ قطعا في هذا الإطلاق ، بل هو خلاف الإجماع الذي لا يعرف غيره ; لأن في الخصومات : إذا اقتضت توجه اليمين على المدعى عليه حلف ، وإن كان كافرا ، والله أعلم .




                                        الخدمات العلمية