الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السابع والمائتان بين قاعدة ما يضمنه الأجراء إذا هلك وبين قاعدة ما لا يضمنونه )

اعلم أن الهلاك خمسة أقسام ما هلك بسبب حامله من عثار أو ضعف حبل لم يغرر به أو ذهاب دابة أو سفينة بما فيهما فلا ضمان ، ولا أجرة ، ولا عليه أن يأتي بمثله ليحمله قاله مالك ، وقال غيره ما هلك بعثار كالهالك بأمر سماوي ، وقال ابن نافع لرب السفينة بحساب ما بلغت .

( الثاني ) ما غر فيه بضعف حبل يضمن القيمة بموضع الهلاك لأنه موضع التفريط ، وله من الكراء بحسابه ، وقيل بموضع الحمل لأنه منه ابتداء التعدي .

( الثالث ) ما هلك بأمر سماوي بالبينة فله الكراء كله ، وعليه حمل مثلهم من موضع الهلاك لأن أجزاء المنفعة مضمونة عليه . ( الرابع ) ما هلك بقولهم من الطعام لا يصدقون [ ص: 12 ] فيه لقيام التهمة ، ولهم الكراء كله لأن شأن الطعام امتداد الأيدي إليه لأنهم استحقوه بالعقد . ( الخامس ) ما هلك بأيديهم من العروض يصدقون فيه لعدم التهمة ، ولهم الكراء كله ، وعليهم حمل مثله من موضع الهلاك لأنهم لما قصدوا أشبه ما هلك بأمر سماوي ، وقال ابن حبيب لهم من الكراء بحسب ما بلغوا ، ويفسخ الكراء لأنه لما كان لا يعلم إلا من قولهم أشبه ما هلك بعثار

[ ص: 12 ]

التالي السابق


[ ص: 12 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع والمائتان بين قاعدة ما يضمنه الأجراء إذا هلك وبين قاعدة ما لا يضمنونه )

وهو أن الهلاك خمسة أقسام يضمن الأجراء المهلوك في قسمين ( أحدهما ) ما غرروا فيه بضعف حبل يضمنون قيمته بموضع الهلاك لأنه موضع أثر التفريط ، ولهم من الكراء بحسابه ، وقيل بموضع الحمل لأنه منه ابتداء التعدي ( وثانيهما ) ما هلك بقولهم من الطعام لا يصدقون فيه لقيام التهمة ، ولهم الكراء كله لأن شأن الطعام امتداد الأيدي إليه لأنهم استحقوه بالعقد ، ولا يضمنونه في ثلاث أقسام : ( أحدها ) ما هلك بسبب حامله من عثار أو ضعف حبل لم يغرر به أو ذهاب دابة [ ص: 28 ] أو سفينة بما فيها فلا ضمان ولا أجرة ، ولا عليه أن يأتي بمثله ليحمله قاله مالك وقال غيره : ما هلك بعثار كالهالك بأمر سماوي .

وقال ابن نافع لرب السفينة بحساب ما بلغت ( وثانيها ) ما هلك بأمر سماوي بالبينة فله الكراء كله ، وعليه حمل مثله من موضع الهلاك لأن أجزاء المنفعة مضمونة عليه ( وثالثها ) ما هلك بأيديهم من العروض يصدقون فيه لعدم التهمة ، ولهم الكراء كله ، وعليهم حمل مثله من موضع الهلاك لأنهم لما صدقوا أشبه ما هلك بأمر سماوي .

وقال ابن حبيب لهم من الكراء بحسب ما بلغوا ، ويفسخ الكراء لأنه لما كان لا يعلم إلا من قولهم أشبه ما هلك بعثار ، وفي بداية المجتهد لحفيد ابن رشد أن الضمان عند الفقهاء على وجهين : ( أحدهما ) ما كان بالتعدي ، وهو أن مالكا جعل عثار الدابة لو كانت عثورا تعديا من صاحب الدابة يضمن بها الحمل ، وكذلك إن كانت الحبال رثة . ( وثانيهما ) ما كان لمكان المصلحة وحفظ الأموال ، وهو ضمان الصناع ، وذلك أنه لا خلاف عندهم أن الأجير ليس بضامن لما هلك عنده مما استؤجر عليه إلا أن يتعدى ما عدا حامل الطعام والطحان فإن مالكا ضمنه ما هلك عنده إلا أن تقوم له بينة على هلاكه من غير سببه ، ومشهور مالك في صاحب الحمام أنه لا يضمن .

وقد قيل يضمن ، وشذ أشهب فضمن الصناع ما قامت البينة على هلاكه عندهم من غير تعد منهم ولا تفريط ، وأما ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم فإنهم اختلفوا في تضمينهم فقال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف يضمنون ما هلك عندهم .

وقال أبو حنيفة لا يضمن من عمل بغير أجر ، ولا الخاص ، ويضمن المشترك ومن عمل بأجر وللشافعي قولان في المشترك والخاص عندهم هو الذي يعمل في منزل المستأجر ، وقيل هو الذي لم ينتصب للناس ، وهو مذهب مالك في الخاص ، وهو عنده غير ضامن ، وتحصيل مذهب مالك على هذا أن الصانع المشترك يضمن سواء عمل بأجر أو بغير أجر ، وبتضمين الصناع قال علي وعمر وإن كان قد اختلف عن علي في ذلك ، وعمدة من لم ير الضمان عليهم أنه شبه الصانع بالمودع عنده والشريك والوكيل وأجير الغنم ، ومن ضمنه فلا دليل له إلا النظر إلى المصلحة وسد الذريعة .

وأما من فرق بين أن يعملوا بأجر أو لا يعملوا بأجر فلأن العامل بغير أجر إنما قبض المعمول لمنفعة صاحبه فقط فأشبه المودع ، وإذا قبضها بأجر فالمنفعة لكليهما فغلبت منفعة القابض فأشبه القرض والعارية عند الشافعي ، وكذلك أيضا من ينصب نفسه لم [ ص: 29 ] يكن في تضمينه سد ذريعة ، ولا خلاف أن الصناع لا يضمنون ما لم يقبضوا في منازلهم ، واختلف أصحاب مالك إذا قامت البينة على هلاك المصنوع ، وسقط الضمان عنهم هل تجب لهم الأجرة أم لا إذا كان هلاكه بعد إتمام الصنعة أو بعد تمام بعضها فقال ابن القاسم لا أجرة لهم .

وقال ابن المواز لهم الأجرة ، ووجه ما قال ابن المواز أن المصيبة إذا نزلت بالمستأجر فوجب أن لا يمضي عمل الصانع باطلا ، ووجه ما قال ابن القاسم أن الأجرة إنما استوجبت في مقابلة العمل فأشبه ذلك إذا هلك بتفريط من الأجير .

وقول ابن المواز أقيس ، وقول ابن القاسم أكثر نظرا إلى المصلحة لأنه رأى أن يشتركوا في المصيبة ، ومن هذا الباب اختلافهم في ضمان صاحب السفينة فقال مالك لا ضمان عليه ، وقال أبو حنيفة عليه إلا من الموج ، وأصل مذهب مالك أن الصناع يضمنون كل ما أتى على أيديهم من خرق أو كسر في المصنوع أو قطع إذا عمله في حانوته ، وإن كان صاحبه قاعدا معه إلا فيما كان فيه تغرير من الأعمال مثل ثقب الجوهر ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز عند الفران ، والطبيب يموت العليل من معالجته ، وكذلك البيطار إلا أن يعلم أنه تعدى فيضمن حينئذ .

وأما الطبيب وما أشبهه إذا أخطأ في فعله ، وكان من أهل المعرفة فلا شيء عليه في النفس ، والدية على العاقلة فيما فوق الثلث ، وفي ماله فيما دون الثلث ، وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب والسجن والدية قيل في ماله ، وقيل على العاقلة ، ومسائل هذا الباب كثيرة ا هـ .

المحتاج إليه منه مع بعض إصلاح ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية