وأما "نعاسا " فإن أعربنا "أمنة " مفعولا به كان بدلا ، وهو بدل اشتمال ، لأن كلا من الأمنة والنعاس يشتمل على الآخر ، أو عطف بيان عند غير الجمهور ، فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارف ، أو مفعولا من أجله وهو فاسد بما تقدم ، وإن أعربنا "أمنة " حالا كان مفعولا بـ "أنزل " عطف على قوله : "فأثابكم " ، وفاعله ضمير الله تعالى ، وأل في "الغم " للعهد ، لتقدم ذكره .
ورد الشيخ على كون "أمنة " مفعولا له بما تقدم ، وفيه نظر ، فإن الزمخشري قال : "أو مفعولا له بمعنى : نعستم أمنة " فقدر له عاملا يتحد فاعله مع فاعل "أمنة " فكأنه استشعر السؤال ، فلذلك قدر عاملا ، على أنه قد يقال : إن الأمنة من الله تعالى ، بمعنى أنه أوقعها بهم ، كأنه قيل : أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به ، و "أمنة " كما تكون مصدرا لمن وقع به الأمن تكون مصدرا لمن أوقعه . الزمخشري
وقرأ [الجمهور : "أمنة " بفتح الميم : إما مصدرا بمعنى الأمن ، أو جمع "آمن " على ما تقدم تفصيله . والنخعي وابن محيصن ] بسكون الميم ، وهو مصدر فقط ، وكلاهما للمرة .
[ ص: 445 ] قوله : يغشى قرأ حمزة بالتاء من فوق ، والباقون بالياء من تحت ، وخرجوا قراءة والكسائي حمزة على أنها صفة لـ "أمنة " مراعاة لها . ولا بد من تفصيل وهو : إن أعربوا "نعاسا " بدلا أو عطف بيان أشكل قولهم من وجهين ، أحدهما : أن النحاة نصوا على أنه إذا اجتمع الصفة والبدل أوعطف البيان ، قدمت الصفة وأخر غيرها . وهنا قد قدموا البدل أو عطف البيان عليها . والثاني : أن المعروف في لغة العرب أن تحدث عن البدل لا عن المبدل منه تقول : "هند حسنها فاتن " ولا يجوز : "فاتنة " إلا قليلا ، فجعلهم "نعاسا " بدلا من "أمنة " يضعف بهذا ، فإن قيل : قد جاء مراعاة المبدل منه في قوله : والكسائي
1471 - فكأنه لهق السراة كأنه ما حاجبيه معين بسواد
فقال : "معين " مراعاة للهاء في "كأنه " ، ولم يراع البدل وهو "حاجبيه " ومثله قوله :
1472 - إن السيوف غدوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب
فقال : "تركت " مراعاة للسيوف ، ولو راعى البدل لقال : "تركا " . فالجواب : أن هذا - وإن كان قد قال به بعض النحويين مستندا إلى هذين البيتين - مؤول بأن "معين " خبر عن "حاجبيه " لجريانهما مجرى الشيء الواحد في كلام العرب ، وأن نصب "غدوها ورواحها " على الظرف لا على البدل ، [ ص: 446 ] وقد تقدم لنا شيء من هذا عند قوله : على الملكين ببابل هاروت وماروت .
وإن أعربوا "نعاسا " مفعولا من أجله لزم الفصل بين الصفة والموصوف بالمفعول له ، وكذا إن أعربوا "نعاسا " مفعولا به ، و "أمنة " حالا يلزم الفصل أيضا ، وفي جوازه نظر . والأحسن حينئذ أن تكون هذه الجملة استئنافية جوابا لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما حكم هذه الأمنة ؟ فأخبر بقوله "تغشى " ، ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على "نعاسا " وتكون الجملة صفة له . و "منكم " صفة لـ "طائفة " فيتعلق بمحذوف .
قوله : وطائفة قد أهمتهم في هذه الواو ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها واو الحال ، وما بعدها في محل نصب على الحال ، والعامل فيها "يغشى " والثاني : أنها واو الاستئناف ، وهي التي عبر عنها بواو الابتداء ، والثالث : أنها بمعنى "إذ " ذكره مكي مكي وهو ضعيف . و "طائفة " مبتدأ ، والخبر "قد أهمتهم أنفسهم " ، وجاز الابتداء بالنكرة لأحد شيئين : إما للاعتماد على واو الحال ، وقد عده بعضهم مسوغا ، وإن كان الأكثر لم يذكروه ، وأنشد : وأبو البقاء
1473 - سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوءه كل شارق
وإما لأن الموضع موضع تفصيل ، فإن المعنى : يغشى طائفة ، وطائفة لم يغشهم ، فهو كقوله :
[ ص: 447 ]
1474 - إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشق عندنا لم يحول
ولو قرئ بنصب "طائفة " على أن تكون المسألة من باب الاشتغال لم يكن ممتنعا إلا من جهة النقل فإني لم أحفظه قراءة .
وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجه ، أحدها : أنه "قد أهمتهم " كما تقدم ، الثاني : أنه "يظنون " والجملة قبله صفة لـ "طائفة " . الثالث : أنه محذوف ، أي ومنكم طائفة وهذا يقوي أن معناه التفصيل ، والجملتان صفتان لـ "طائفة " ، أو يكون "يظنون " حالا من مفعول "أهمتهم " أو من "طائفة " لتخصصه بالوصف ، أو خبرا بعد خبر إن قلنا إن "قد أهمتهم " خبر أول ، وفيه من الخلاف ما مضى غير مرة . الرابع : أن الخبر "يقولون " ، والجملتان قبله على ما تقدم من كونهما صفتين أو خبرين ، أو إحداهما خبر والأخرى حال ، ويجوز أن يكون "يقولون " صفة ، أو حالا أيضا إن قلنا : إن الخبر الجملة التي قبله ، أو قلنا إن الخبر مضمر .
وقوله : يظنون له مفعولان ، فقال : "غير الحق " مفعول أول أي : أمرا غير الحق ، و "بالله " هو المفعول الثاني . وقال أبو البقاء : "غير الحق " في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به ، و " الزمخشري ظن الجاهلية " ، بدل منه ، ويجوز أن يكون المعنى : "يظنون بالله ظن الجاهلية " ، و "غير الحق " تأكيد لـ "يظنون " كقولك : "هذا القول غير ما تقول " ، فعلى ما قال لا يتعدى "ظن " إلى مفعولين ، بل تكون الباء ظرفية للظن ، كقولك : "ظننت بزيد " أي : جعلته مكان ظني " ، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قوله :
[ ص: 448 ]
1475 - فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
أي : اجعلوا ظنكم في ألفي مدجج . وتحصل في نصب " غير الحق "وجهان ، أحدهما : أنه مفعول أول لـ " يظنون " . والثاني : أنه مصدر مؤكد للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما . الزمخشري
وفي نصب " ظن الجاهلية "وجهان أيضا : البدل من " غير الحق " ، أو أنه مصدر مؤكد لـ " يظنون " ، و " بالله " : إما متعلق بمحذوف على جعله مفعولا ثانيا ، وإما بفعل الظن على ما تقدم وإضافة " الظن "إلى " الجاهلية "قال : " كقولك : "حاتم الجود ، ورجل صدق " يريد الظن المختص بالملة الجاهلية ، ويجوز أن يراد : ظن أهل الجاهلية "وقال غيره : " المعنى : المدة الجاهلية أي : القديمة قبل الإسلام نحو : حمية الجاهلية " . الزمخشري
قوله : هل لنا من الأمر من شيء : " من "في " من شيء "زائدة في المبتدأ ، وفي الخبر وجهان ، وأصحهما أنه " لنا " ، فيكون " من الأمر "في محل نصب على الحال من " شيء "لأنه نعت نكرة قدم عليها فينتصب حالا . ويتعلق بمحذوف . والثاني : -أجازه - أن يكون " من الأمر "هو الخبر ، و " لنا "تبيين ، وبه تتم الفائدة كقوله : أبو البقاء ولم يكن له كفوا أحد ، وهذا ليس بشيء لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذ يتعلق بمحذوف ، وإذا كان كذلك فيصير " لنا "من جملة أخرى ، فتبقى الجملة من المبتدأ أو الخبر غير مستقلة بالفائدة ، وليس نظيرا لقوله : ولم يكن له كفوا أحد فإن " له "فيها متعلق بنفس " كفوا "لا بمحذوف ، وهو نظير : " لم يكن أحد قائلا لبكر "فـ " لبكر "متعلق بنفس الخبر .
[ ص: 449 ] وهل هذا الاستفهام على حقيقته ؟ فيه وجهان أظهرهما : نعم ، ويعنون بالأمر : النصر والغلبة . والثاني : أنه بمعنى النفي ، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء ، وإليه ذهب قتادة ، ولكن يضعف هذا بقوله : وابن جريج قل إن الأمر كله لله فإن من نفى عن نفسه شيئا لا يجاب بأن يثبت لغيره ، لأنه مقر بذلك ، اللهم إلا أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة فكأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيء ، بل لمن أكرهنا على الخروج ، وحملنا عليه ، فحينئذ يحسن الجواب بقوله قل إن الأمر كله لله لقولهم هذا .
وهذه الجملة الجوابية اعتراض بين الجمل التي جاءت بعد قوله : وطائفة فإن قوله : يخفون في أنفسهم وكذا "يقولون " الثانية : إما خبر عن "طائفة " أو حال مما قبلها .
وقرأ الجماعة "كله " بالنصب ، وفيه وجهان ، أظهرهما : أنه تأكيد لاسم "إن " . والثاني - حكاه عن مكي - أنه بدل منه ، وليس بواضح . و "لله " خبر "إن " . وقرأ الأخفش : "كله " رفعا وفيه وجهان ، أشهرهما : أنه رفع بالابتداء ، و "لله " خبره ، والجملة خبر "إن " نحو : "إن مال زيد كله عنده " . والثاني : أنه توكيد على المحل ، فـ "إن " اسمها في الأصل مرفوع بالابتداء ، وهذا مذهب أبو عمرو الزجاج والجرمي ، يجرون التوابع كلها مجرى عطف النسق ، فيكون "لله " خبرا لـ "إن " أيضا . و "يخفون " : إما خبر لـ "طائفة " أو حال مما قبله كما تقدم . وأما "يقولون " فيحتمل هذين الوجهين ، ويحتمل أن يكون تفسيرا لقوله "يخفون " فلا محل له حينئذ .
وقوله : ما قتلنا جواب "لو " ، وجاء على الأفصح : فإن جوابها إذا كان [ ص: 450 ] منفيا بـ "ما " فالأكثر عدم اللام ، وفي الإيجاب بالعكس . وقوله : لو كان لنا من الأمر شيء كقوله : هل لنا من الأمر من شيء وقد عرف الصحيح من الوجهين .
وقد أعرب هذه الجمل الواقعة بعد قوله : الزمخشري وطائفة إعرابا أفضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر ، ولا بد من إيراد نصه ليتبين ذلك ، قال رحمه الله : "فإن قلت كيف مواقع هذه الجمل التي بعد قوله : " وطائفة " ؟ قلت : " قد أهمتهم "صفة لـ " طائفة "و " يظنون "صفة أخرى أو حال ، بمعنى : قد أهمتهم أنفسهم ظانين ، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها ، و " يقولون "بدل من " يظنون " . فإن قلت : كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلا من الإخبار بالظن ؟ قلت : كانت مسألتهم صادرة عن الظن فلذلك جاز إبداله منه ، و "يخفون " حال من "يقولون " ، و قل إن الأمر كله لله اعتراض بين الحال وذي الحال ، و "يقولون " بدل من "يخفون " ، والأجود أن يكون استئنافا "انتهى كلامه . وهذا من بناء على أن الخبر محذوف كما قدمت لك تقريره [في ] : " ومنكم طائفة "لأنه موضع تفصيل . أبي القاسم
قوله : لبرز جاء على الأفصح ، وهو ثبوت اللام في جوابها مثبتا ، والجمهور " لبرز "مخففا مبنيا للفاعل ، وأبو حيوة : " لبرز "مشددا مبنيا للمفعول ، عداه بالتضعيف . وقرئ " كتب "مبنيا للفاعل وهو الله تعالى ، " القتل "مفعولا به ، : " القتال "رفعا . والحسن
قوله : وليبتلي فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه متعلق بفعل قبله ، تقديره : فرض الله عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليبتلي ما في [ ص: 451 ] صدوركم . وقيل : بفعل بعده ، أي : ليبتلي فعل هذه الأشياء . وقيل : الواو زائدة واللام متعلقة بما قبلها ، وقيل : " وليبتلي "عطف على " ليبتلي "الأولى ، وإنما كررت لطول الكلام ، فعطف عليه " وليمحص "قاله ابن بحر . وقيل : هو عطف على علة محذوفة تقديره : ليقضي الله أمره وليبتلي ، وجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصدور ، والذي انطوى عليه الصدر هو القلب ، لقوله : القلوب التي في الصدور ، وجعل متعلق التمحيص - وهو التصفية - ما في القلب وهو النيات والعقائد .