قوله : تجري من تحتها الأنهار هذه الجملة أجاز فيها وجهين ، أحدهما : الرفع على النعت لـ "جنات " . والثاني : النصب على الحال من الضمير المستكن في "لهم " قال : "وإن شئت في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في " لهم " ؛ إذ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت " جنات "بالابتداء ، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في " لهم "ضمير [ ص: 546 ] مرفوع إذ هو كالفعل المتقدم " . يعني أن "جنات " يجوز رفعها من وجهين ، أحدهما : الابتداء والجار قبلها خبرها والجملة خبر "الذين اتقوا " . والثاني : بالفاعلية لأن الجار قبلها اعتمد بكونه خبرا للذين اتقوا ، وقد تقدم أن هذه أولى لقربه من المفرد ، فإن جعلنا رفعها بالابتداء جاز في مكي تجري من تحتها الأنهار وجهان : الرفع على النعت والنصب على الحال من الضمير المرفوع في "لهم " لتحمله حينئذ ضميرا ، وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعين أن تكون الجملة بعدها في موضع رفع نعتا لها ، ولا يجوز النصب على الحال ؛ لأن "لهم " ليس فيه حينئذ ضمير لرفعه الظاهر . و "خالدين " نصب على الحال من الضمير في "لهم " ، والعامل فيه معنى الاستقرار .
قوله : "نزلا " النزل : ما يهيأ للنزيل وهو الضيف . قال أبو الشعراء الضبي :
1522 - وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
هذا أصله ثم اتسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء ، وإن لم يكن لضيف ، ومنه : فنزل من حميم وفيه قولان : هل هو مصدر أو جمع نازل ، نحو قول الأعشى :
[ ص: 547 ]
1523 - ... ... ... ... أو تنزلون فإنا معشر نزل
إذا عرفت هذا ففي نصبه ستة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على المصدر المؤكد ؛ لأن معنى "لهم جنات " ننزلهم جنات نزلا . وقدره بقوله : "رزقا وعطاء من عند الله " . الثاني : نصبه بفعل مضمر أي : جعلها لهم نزلا . الثالث : نصبه على الحال من "جنات " لأنها تخصصت بالوصف . الرابع : أن يكون حالا من الضمير في "فيها " أي : منزلة إذا قيل : بأن "نزلا " مصدر بمعنى المفعول نقله الزمخشري . الخامس : أنه حال من الضمير المستكن في "خالدين " إذا قلنا إنه جمع نازل ، قاله أبو البقاء في "التذكرة " . السادس - وهو قول الفارسي - : نصبه على التفسير أي : التمييز ، كما تقول : "هو لك هبة أو صدقة " ، وهذا هو القول بكونه حالا . الفراء
والجمهور على ضم الزاي . وقرأ الحسن والأعمش بسكونها وهي لغة ، وعليها البيت المتقدم ، وقد تقدم لك أن مثل هذا يكون فيه المسكن مخففا من المثقل أو بالعكس ، والحق : الأول . والنخعي
قوله : من عند الله فيه ثلاثة أوجه ، لأنك إن جعلت "نزلا " مصدرا كان الظرف صفة له ، فيتعلق بمحذوف أي : نزلا كائنا من عند الله على سبيل التكريم ، وإن جعلته جمعا كان في الظرف وجهان ، أحدهما : جعله حالا من الضمير المحذوف تقديره : نزلا إياها . والثاني : أنه خبر محذوف أي : ذلك من عند الله ، نقل ذلك . أبو البقاء
[ ص: 548 ] قوله : وما عند الله خير : "ما " موصولة ، وموضعها رفع بالابتداء ، والخبر : "خير " ، و "للأبرار " صفة لـ "خير " ، فهو في محل رفع ، ويتعلق بمحذوف . وظاهر عبارة الشيخ أنه متعلق بنفس "خير " فإنه قال : "وللأبرار " متعلق "بخير " . وأجاز بعضهم أن يكون "للأبرار " هو الخبر ، و "خير " خبر ثان . قال : "والثاني - أي الوجه الثاني - أن يكون الخبر " للأبرار " ، والنية به التقديم ، أي : والذي عند الله مستقر للأبرار ، و " خير "على هذا خبر ثان " ، وفي ادعاء التقديم والتأخير نظر ؛ لأن الأصل في الأخبار أن تكون بالاسم الصريح ، فإذا اجتمع خبر مفرد صريح وخبر مؤول به بدئ بالصريح من غير عكس ، كالصفة ، فإذا وقعا في الآية على الترتيب المذكور فكيف يدعى فيهما التقديم والتأخير ؟ . أبو البقاء
ونقل عن بعضهم أنه جعل "للأبرار " حالا من الضمير في الظرف ، و "خير " خبر المبتدأ ، قال : "وهذا بعيد ، لأن فيه الفصل بين المبتدأ وخبره بحال هي لغيره ، والفصل بين الحال وصاحبها بخبر المبتدأ ، وذلك لا يجوز في الاختيار . أبو البقاء
وقال الشيخ : " وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : الذي عند الله للأبرار خير ، قال : "وهذا ذهول عن قاعدة العربية : من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول ، فيكون المجرور داخلا في حيز الصلة ، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها " . فإن عنى الشيخ بالتقديم والتأخير هذا الوجه - أعني جعل "للأبرار " حالا من الضمير [ ص: 549 ] في الظرف - فصحيح ، لأن العامل في الحال حينئذ الاستقرار الذي هو عامل في الظرف الواقع صلة ، فيلزم ما قاله ، وإن عنى به الوجه الأول - أعني جعل "للأبرار " خبرا ، والنية به التقديم ، وبـ "خير " التأخير كما ذكر - فلا يلزم ما قال ، لأن "للأبرار " حينئذ يتعلق بمحذوف آخر غير الذي تعلق به الظرف . أبو البقاء
و "خير " هنا يجوز أن تكون للتفضيل وأن لا تكون فإن كانت للتفضيل كان المعنى : وما عند الله خير للأبرار مما لهم في الدنيا ، ويحتمل : خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع القليل الزائل .