الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسلك الخامس

                        السبر والتقسيم

                        وهو في اللغة الاختبار ، ومنه الميل الذي يختبر به الجرح ، فإنه يقال له المسبار ، [ ص: 623 ] وسمي هذا به ; لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها ( في أنه ) هل تصلح للعلية أم لا ؟ وفي الاصطلاح هو قسمان :

                        ( أحدهما ) : أن يدور بين النفي والإثبات; وهذا هو المنحصر .

                        ( والثاني ) : أن يكون كذلك ، وهذا المنتشر .

                        ( فالأول ) : أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عليه ، ثم اختبارها في المقيس ، وإبطال ما لا يصلح منها بدليله ، وذلك الإبطال إما بكونه ملغى ، أو وصفا طرديا ، أو يكون فيه نقض ، أو كسر ، أو خفاء ، أو اضطراب ، فيتعين الباقي للعلية .

                        وقد يكون في القطعيات ، كقولنا : العالم إما أن يكون قديما ، أو حادثا ، بطل أن يكون قديما ، فثبت أنه حادث .

                        قد يكون في الظنيات ، نحو أن تقول : في قياس الذرة على البر ، في الربوية : بحثت عن أوصاف البر فما وجدت ثم ما يصلح للربوية في بادئ الرأي إلا الطعم ، والقوت ، والكيل : لكن الطعم ، والقوت لا يصلح لذلك ، بدليل كذا ، فتعين الكيل .

                        قال الصفي الهندي وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدا .

                        ويشترط في صحة هذا المسلك أن يكون الحكم في الأصل معللا بمناسب ، خلافا للغزالي وأن يقع الاتفاق على أن العلة لا تركيب فيها ، كما في مسألة الربا ، فأما لو لم يقع الاتفاق ، لم يكن هذا المسلك صحيحا; لأنه إذا بطل كونه علة مستقلة; جاز أن يكون جزءا من أجزائها ، وإذا انضم إلى غيره; صار علة مستقلة ، فلا بد من إبطال كونه علة أو جزء علة .

                        ويشترط أيضا أن يكون حاصرا لجميع الأوصاف ، وذلك بأن يرافقه الخصم على انحصارها في ذلك ، أو يعجز عن إظهار وصف زائد ، وإلا فيكفي المستدل أن يقول : بحثت عن الأوصاف فلم أجد سوى ما ذكرته ، والأصل عدم ما سواها ، وهذا إذا كان أهلا للبحث .

                        ونازع في ذلك بعض الأصوليين ومنهم الأصفهاني ، فقال : قول المعلل في جواب طالب الحصر : بحثت وسبرت فلم أجد غير هذه الأشياء ، فإن ظفرت بعلة أخرى [ ص: 624 ] فأبرزها ، وإلا فليلزمك ما يلزمني ، قال : وهذا فاسد; لأن سبره لا يصلح دليلا; لأن الدليل ما يعلم به المدلول ، ومحال أن يعلم طالب الحصر الانحصار ببحثه ونظره ، وجهله لا يوجب على خصمه أمرا ، واختار ابن برهان التفصيل بين المجتهد وغيره .

                        ( القسم الثاني ) : المنتشر ، وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات ، أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنيا .

                        فاختلفوا في ذلك على مذاهب :

                        ( الأول ) : أنه ليس بحجة مطلقا ، لا في القطعيات ، ولا في الظنيات ، حكاه في البرهان عن بعض الأصوليين .

                        ( الثاني ) : أنه حجة في العمليات فقط ; لأنه يحصل غلبة الظن ، واختاره إمام الحرمين الجويني ، وابن برهان ، وابن السمعاني ، قال الصفي الهندي : هو الصحيح .

                        ( الثالث ) : أنه حجة للناظر دون المناظر ، واختاره الآمدي .

                        وقال إمام الحرمين في الأساليب : إنه يفيد الطالب مذهب الخصم ، دون تصحيح مذهب المستدل ، إذ لا يمنع أن يقول : ما أبطلته باطل ، وما اخترته باطل .

                        وحكى ابن العربي أنه دليل قطعي ، وعزاه إلى الشيخ أبي الحسن والقاضي ، وسائر أصحاب الشافعي ، قال : وهو الصحيح ، فقد نطق به القرآن ضمنا ، وتصريحا ، في مواطن كثيرة .

                        فمن الضمن قوله تعالى : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام إلى قوله : حكيم عليم ومن التصريح قوله : ثمانية أزواج إلى قوله : الظالمين .

                        وقد أنكر بعض أهل الأصول أن يكون السبر والتقسيم مسلكا .

                        قال الأبياري في شرح البرهان : السبر يرجع إلى اختبار أوصاف المحل [ ص: 625 ] وضبطها ، والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله منها ، فإذا لا يكون من الأدلة بحال ، وإنما تسامح الأصوليون بذلك .

                        قال ابن المنير : ( ومن الأسئلة ) القاصمة لمسلك السبر والتقسيم أن المنفي لا يخلو في نفس الأمر أن يكون مناسبا ، أو شبها ، أو طردا; لأنه إما إن يشتمل على مصلحة أو لا ، فإن اشتمل على مصلحة; فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط .

                        ( فالأول ) : المناسبة .

                        ( والثاني ) : الشبه .

                        وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا; فهو الطرد المردود ، فإن كان ثم مناسبة أو شبه يعني لغي السبر والتقسيم ، وإن كان عريا عن المناسبة قطعا ، لم ينفع السبر والتقسيم أيضا .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية