الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الثانية

          اختلف العلماء في صحة الاستثناء من غير الجنس ، فجوزه أصحاب أبي حنيفة ومالك والقاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين والنحاة ومنع منه الأكثرون .

          وأما أصحابنا فمنهم من قال بالنفي ، ومنهم من قال بالإثبات .

          [ ص: 292 ] احتج من قال بالبطلان بأن الاستثناء استفعال مأخوذ من الثني ، ومنه تقول : ثنيت الشيء إذا عطفت بعضه على بعض ، وثنيت فلانا عن رأيه ، وثنيت عنان الفرس .

          وحقيقته أنه استخراج بعض ما تناوله اللفظ وذلك غير متحقق في مثل قول القائل : رأيت الناس إلا الحمر ؛ لأن الحمر المستثناة غير داخلة في مدلول المستثنى منه حتى يقال بإخراجها وثنيها عنه ، بل الجملة الأولى باقية بحالها لم تتغير ، ولا تعلق للثاني بالأول أصلا .

          ومع ذلك فلا تحقق للاستثناء من اللفظ ، ولا يمكن أن يقال بصحة الاستثناء بناء على ما وقع به الاشتراك من المعنى بين المستثنى والمستثنى منه ، وإلا لصح استثناء كل شيء من كل شيء ، ضرورة أنه ما من شيئين إلا وهما مشتركان في معنى عام لهما ، وليس كذلك .

          كيف وإنه لو قال القائل : جاء العلماء إلا الكلاب ، وقدم الحجاج إلا الحمير كان مستهجنا لغة وعقلا ، وما هذا شأنه لا يكون وضعه مضافا إلى أهل اللغة ؟

          ولقائل أن يقول : لا نسلم أن الاستثناء مأخوذ من الثني ، بل من التثنية ، وكأن الكلام كان واحدا فثني ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .

          فإن قيل : لو كان الاستثناء مأخوذا من التثنية ؛ لكان كل ما وجد فيه معنى التثنية من الكلام استثناء ، وليس كذلك .

          قلنا : ولو كان مأخوذا من الثني لكان كل ما وجد فيه الثني والعطف استثناء ، وليس كذلك .

          ولهذا لا يقال لمن عطف الثوب بعضه على بعض ، أو عطف عنان الفرس إنه استثناء .

          قولكم : إن الاستثناء استخراج بعض ما تناوله اللفظ دعوى في محل النزاع ، وكيف يدعى ذلك مع قول الخصم بصحة الاستثناء من غير الجنس ، ولا دخول للمستثنى تحت المستثنى منه ؟

          وما ذكرتموه من الاستقباح لا يدل على امتناع صحته في اللغة .

          ولهذا ، فإنه لو قال القائل في دعائه : يا رب الكلاب والحمير وخالقهم ارزقني وأعطني كان مستهجنا ، وإن كان صحيحا من جهة اللغة والمعنى .

          ثم وإن سلمنا امتناع صحة الاستثناء من نفس الملفوظ به مطابقة ، فما المانع من صحته ، نظرا إلى ما وقع به الاشتراك بين المستثنى والمستثنى منه في المعنى اللازم [ ص: 293 ] المدلول للفظ مطابقة ؟ كما قال الشافعي إنه لو قال القائل : لفلان علي مائة درهم إلا ثوبا ، فإنه يصح ويكون معناه إلا قيمة ثوب لاشتراكهما في ثبوت صفة القيمة لهما ، وكما قاله أبو حنيفة في استثناء المكيل من الموزون وبالعكس لاشتراكهما في علة الربا .

          قولكم : لو صح ذلك لصح استثناء كل شيء من كل شيء ليس كذلك .

          وما المانع أن تكون صحة الاستثناء مشروطة بمناسبة بين المستثنى والمستثنى منه ؟ كما إذا قال القائل : ليس لي نخل إلا شجر ولا إبل إلا بقر ولا بنت إلا ذكر ، ولا كذلك فيما إذا قال : ليس لفلان بنت إلا أنه باع داره .

          وأما القائلون بالصحة فقد احتجوا بالمنقول والمعقول ، أما المنقول ، فمن جهة القرآن ، والشعر ، والنثر .

          أما القرآن فقوله - تعالى - : ( ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ) ، وإبليس لم يكن من جنس الملائكة لقوله - تعالى - في آية أخرى : ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) والجن ليسوا من جنس الملائكة ، ولأنه كان مخلوقا من نار على ما قال : ( خلقتني من نار ) والملائكة من نور ، ولأن إبليس له ذرية على ما قال - تعالى - : ( أفتتخذونه وذريته أولياء ) ، ولا ذرية للملائكة فلا يكون من جنسهم ، وهو مستثنى منهم .

          وقوله - تعالى - : ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) استثنى الباري - تعالى - من جملة ما كانوا يعبدون من الأصنام وغيرها ، والباري - تعالى - ليس من جنس شيء من المخلوقات .

          وقوله - تعالى - : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) استثنى الظن من العلم ، وليس من جنسه .

          وقوله - تعالى - : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) استثنى السلام من اللغو ، وليس من جنسه ، وقوله - تعالى - : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ، والتجارة ليست من جنس الباطل ، وقد استثناها منه .

          وقوله - تعالى - : ( فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ) استثنى الرحمة من نفي الصريخ والإنقاذ ، وليست من جنسه .

          وقوله - تعالى - : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ومن رحم ليس بعاصم ، بل معصوم ، وليس المعصوم من جنس العاصم .

          [ ص: 294 ] وقوله - تعالى - : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) استثنى الخطأ من القتل ، وليس من جنسه .

          وأما الشعر : فمن ذلك قول القائل منهم :

          وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس





          [1] والعيس ليست من جنس الأنيس .

          وقال النابغة الذبياني :

          وقفت فيها أصيلا لا أسائلها     عيت جوابا وما بالربع من أحد
          إلا أواري لأيا ما أبينها     والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد


          والأواري ليست من جنس الأحد .

          وقال :

          ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب





          [2] وليس فلول السيوف عيبا لأربابها ، بل فخرا لهم ، وقد استثناها من العيوب ، وليست من جنسها .

          وأما النثر فقول العرب : ما زاد إلا ما نقص ، وما بالدار أحد إلا الوتد ، وما جاءني زيد إلا عمرو .

          استثنوا النقص من الزيادة والوتد من أحد ، وعمرا من زيد ، وليس من جنسه .

          [ ص: 295 ] وأما المعقول فهو أن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه فصح ، كاستثناء الدراهم من الدنانير وبالعكس .

          ولقائل أن يقول : أما الآية الأولى فلا نسلم أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة .

          قولكم : إنه كان من الجن ، قلنا : لا منافاة بين الأمرين ، فإنه قد قال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن إبليس كان من الملائكة من قبيل يقال لهم الجن ؛ لأنهم كانوا خزان الجنان ، وكان إبليس رئيسهم ، وتسميته جنيا لنسبته إلى الجنة كما يقال : بغدادي ومكي .

          ويحتمل أنه سمي بذلك لاجتنانه واختفائه ، ويدل على كونه من الملائكة أمران : الأول : أن الله - تعالى - استثناه من الملائكة ، والأصل أن يكون من جنسهم ؛ للاتفاق على صحة الاستثناء من الجنس ووقوع الخلاف في غيره .

          الثاني : أن الأمر بالسجود لآدم إنما كان للملائكة ، بدليل قوله - تعالى - : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان عاصيا للأمر المتوجه إلى الملائكة لكونه ، ليس منهم ، إذ الأصل عدم أمر وراء ذلك الأمر .

          ودليل عصيانه قوله - تعالى - : ( إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) .

          قولكم : إن إبليس له ذرية ليس في ذلك ما ينافي كونه من جنس الملائكة .

          فلئن قلتم بأن التوالد لا يكون إلا من ذكر وأنثى ، والملائكة لا إناث فيهم بدليل قوله - تعالى - : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) ذكر ذلك في معرض الإنكار والتوعد على قول ذلك .

          قلنا : إنما يلزم من ذلك الإناث في الملائكة أن لو امتنع حصول الذرية إلا من جنسين ، وهو غير مسلم .

          قولكم : إن إبليس مخلوق من نار ، والملائكة من نور لا منافاة أيضا بين ذلك وبين كونه من الملائكة .

          وأما الآية الثانية ، فاستثناء الرب - تعالى - فيها من المعبودين ، وذلك قوله : ( ما كنتم تعبدون ) ، وهم كانوا ممن يعبد الله مع الأصنام ؛ لأنهم كانوا مشركين لا جاحدين لله - تعالى - فلا يكون الاستثناء من غير الجنس .

          [ ص: 296 ] وأما الآية الثالثة : فجوابها من وجهين : الأول : أن قوله - تعالى - : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) عام في كل ما يسمى علما ، والظن يسمى علما ودليله قوله - تعالى - : ( فإن علمتموهن مؤمنات ) وأراد إن ظننتموهن ؛ لاستحالة اليقين بذلك ، وذلك إن كان من الأسماء المتواطئة فلا يكون الاستثناء من غير الجنس ، وإن كان من الأسماء المشتركة أو المجازية ، فهو من جملة الأسماء العامة كما سبق .

          الثاني : أن ( إلا ) فيها ليست للاستثناء ، بل هي بمعنى ( لكن ) ، وكذلك الحكم فيما بعدها من الآيات .

          وأما استثناء ( اليعافير والعيس ) من ( الأنيس ) فليس استثناء من غير الجنس ؛ لأنها مما يؤنس بها ، فهي من جنس الأنيس ، وإن لم تكن من جنس الأنس ، بل وقد يحصل الأنس بالآثار والأبنية والأشجار ، فضلا عن الحيوان .

          وأما استثناء الأواري من أحد ، فإنما كان لأنه كما يطلق الأحد على الآدمي فقد يطلق على غيره من الحيوانات والجمادات ، ولذلك يقال : رأيت أحد الحمارين ، وركبت أحد الفرسين ، ورميت أحد الحجرين وأحد السهمين ، فلم يكن الاستثناء من غير الجنس من حيث إن الأواري مما يصدق عليها لفظة ( أحد ) وبتقدير أن لا يكون من الجنس فإلا ليست استثنائية حقيقة ، بل بمعنى ( لكن ) كما سبق .

          وأما ( فلول السيوف ) فهو عيب في السيوف ، وإن كان يسبب فلولها فخرا ومدحة لأربابها فهو في الجملة استثناء من الجنس .

          وقول العرب : ( ما زاد إلا ما نقص ) تقديره : ما زاد شيء إلا الذي نقص أي ينقص ، وهو استثناء من الجنس .

          وقولهم : ( ما في الدار أحد إلا الوتد ) فجوابه كما سبق في الأواري من أحد .

          وقوله : ( ما جاءني زيد إلا عمرو ) فإلا بمعنى ( لكن ) .

          وما ذكروه من المعقول ، قولهم : إن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه ، فشيء لا إشعار له بصحة الاستثناء من غير الجنس .

          [ ص: 297 ] وأما استثناء ( الدراهم ) من ( الدنانير ) وبالعكس ، فهو أيضا محل النزاع عند القائلين بعدم صحة الاستثناء من غير الجنس ، وإن تكلف بيان صحة الاستثناء من جهة اشتراكهما في النقدية وجوهرية الثمنية فآيل إلى الاستثناء من الجنس .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية