الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الثالثة :

                        إن هذه الفرقة يحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا .

                        فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق ، وليس ذلك إلا لكفر ، إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور .

                        ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة ، كقوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وهي آية نزلت - عند المفسرين - في أهل البدع ، ويوضحه من قرأ : إن الذين فرقوا دينهم والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هي الخروج عنه ، وقوله : فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم الآية وهي عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع ، وهذا كالنص ، إلى غير ذلك من الآيات .

                        وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض [ ص: 706 ] وهذا نص في كفر من قيل ذلك فيه ، وفسره الحسن بما تقدم في قوله

                        ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا الحديث ، وقوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج :

                        دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء - وهو القدح - ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء من الفرث والدم
                        فانظر إلى قوله : من الفرث والدم فهو الشاهد على أنهم دخلوا في الإسلام فلا يتعلق بهم منه شيء .

                        وفي رواية أبي ذر - رضي الله عنه - :

                        سيكون بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة إلى غير ذلك من الأحاديث، إنما هي في قوم بأعيانهم ، فلا حجة فيها على غيرهم ، لأن العلماء استدلوا بها على جميع أهل الأهواء ، كما استدلوا بالآيات .

                        [ ص: 707 ] وأيضا ، فالآيات إن دلت بصيغ عمومها فالأحاديث تدل بمعانيها لاجتماع الجميع في العلة .

                        فإن قيل : الحكم بالكفر والإيمان راجع إلى حكم الآخرة ، والقياس لا يجري فيها . فالجواب : إن كلامنا في الأحكام الدنيوية ، وهل يحكم لهم بحكم المرتدين أم لا ؟ وإنما أمر الآخرة لله ، لقوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون .

                        ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة ، وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله .

                        ويدل على ذلك جميع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل ، فلا فائدة في الإعادة .

                        ويحتمل وجها ثالثا ، وهو أن يكون منهم من فارق الإسلام لكن مقالته كفر وتؤدي معنى الكفر الصريح ، ومنهم من لم يفارقه ، بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقاله وشنع مذهبه ، لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح .

                        ويدل على ذلك الدليل بحسب كل نازلة ، وبحسب كل بدعة ، إذ لا شك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة وإنكار الإجماع وإنكار القياس وما أشبه ذلك .

                        [ ص: 708 ] ولقد فصل بعض المتأخرين في التكفير تفصيلا في هذه الفرق ، فقال : ما كان من البدع راجعا إلى اعتقاد وجود إله مع الله ، كقول السبئية في علي - رضي الله عنه - أنه إله، أو خلق الإله في بعض أشخاص الناس كقول الجناحية : إن الله تعالى له روح يحل في بعض بني آدم ، ويتوارث، أو إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كقول الغرابية : إن جبريل غلط في الرسالة فأداها إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلي كان صاحبها، أو استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات ، وإنكار ما جاء به الرسول كأكثر الغلاة من الشيعة ، مما لا يختلف المسلمون في التكفير به ، وما سوى ذلك من المقالات فلا يبعد أن يكون معتقدها غير كافر .

                        واستدل على ذلك بأمور كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ولكن الذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول أن الكفر بالمآل ، ليس بكفر في الحال، كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار ويرمي مخالفه به، [ ولو ] تبين له وجه لزوم الكفر من مقالته لم يقل بها على حال .

                        وإذا تقرر نقل الخلاف فلنرجع إلى ما يقتضيه الحديث الذي نحن بصدده من هذه المقالات .

                        أما ما صح منه فلا دليل على شيء ، لأنه ليس فيه إلا تعديد الفرق الخاصة . وأما على رواية من قال في حديثه :

                        كلها في النار إلا واحدة فإنما [ ص: 709 ] يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهرا ، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتا عنه ، فلا دليل فيه على شيء مما أردنا ، إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة ، وإن تباينا في التخليد وعدمه .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية