الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (249) قوله تعالى: فصل : أي: انفصل، فلذلك كان قاصرا. وقيل: إن أصله التعدي إلى مفعول ولكنه حذف، والتقدير: فصل نفسه ثم كثر حذف هذا المفعول حتى صار الفعل كالقاصر.

                                                                                                                                                                                                                                      و "بالجنود" متعلق بمحذوف لأنه حال من "طالوت" أي: مصاحبا لهم. وبين جملة قوله "فلما فصل" وبين ما قبلها من الجمل جملة محذوفة يدل [ ص: 526 ] عليها فحوى الكلام وقوته، تقديره: فجاءهم التابوت، فملكوا طالوت وتأهبوا للخروج وهي كقوله: "فأرسلون يوسف أيها الصديق".

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على قراءة "بنهر" بفتح الهاء وهي اللغة الفصيحة، وفيه لغة أخرى: تسكين الهاء، وبها قرأ مجاهد وأبو السمال في جميع القرآن، وقد تقدم ذلك واشتقاق هذه اللفظة عند قوله تعالى: "من تحتها الأنهار".

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الياء في "مبتليكم" واو لأنه من بلا يبلو أي: اختبر، وإنما قلبت لانكسار ما قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فليس مني" أي: من أشياعي وأصحابي، و "من" للتبعيض، كأنه يجعل أصحابه بعضه، ومثله قول النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      1023 - إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى يطعمه: يذقه، تقول العرب: "طعمت الشيء" أي: ذقت طعمه قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1024 - فإن شئت حرمت النساء سواكم     وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلا من اغترف" منصوب على الاستثناء، وفي المستثنى منه وجهان، الصحيح أنه الجملة الأولى وهي: "فمن شرب منه فليس مني"، والجملة الثانية معترضة بين المستثنى والمستثنى منه، وأصلها التأخير، وإنما [ ص: 527 ] قدمت لأنها تدل عليها الأولى بطريق المفهوم، فإنه لما قال تعالى: "فمن شرب منه فليس مني" فهم منه أن من لم يشرب فإنه منه، فلما كانت مدلولا عليها بالمفهوم صار الفصل بها كلا فصل. وقال الزمخشري: "والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا أنها قدمت للعناية، كما قدم "والصابئون" في قوله: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون".

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه مستثنى من الجملة الثانية، وإليه ذهب أبو البقاء. وهذا غير سديد لأنه يؤدي إلى أن المعنى: ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف بيده فإنه ليس مني، لأن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، كما هو الصحيح، ولكن هذا فاسد في المعنى لأنهم مفسوح لهم في الاغتراف غرفة واحدة.

                                                                                                                                                                                                                                      والاستثناء إذا تعقب الجمل وصلح عوده على كل منها هل يختص بالأخيرة أم لا؟ خلاف مشهور، فإن دل دليل على اختصاصه بإحدى الجمل عمل به، والآية من هذا القبيل، فإن المعنى يعود إلى عوده إلى الجملة الأولى لا الثانية لما ذكرت لك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحرميان وأبو عمرو: "غرفة" بفتح الغين والباقون بضمها. فقيل: هما بمعنى المصدر، إلا أنهما جاءا على غير الصدر كنبات من أنبت، [ ص: 528 ] ولو جاء على الصدر لقيل: اغترافا. وقيل: هما بمعنى المغترف كالأكل بمعنى المأكول. وقيل: المفتوح مصدر قصد به الدلالة على الوحدة فإن "فعلة" يدل على المرة، والمضموم بمعنى المفعول، فحيث جعلتهما مصدرا فالمفعول محذوف، تقديره: إلا من اغترف ماء، وحيث جعلتهما بمعنى المفعول كانا مفعولا به، فلا يحتاج إلى تقدير مفعول.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل عن أبي علي أنه كان يرجح قراءة الضم لأنه في قراءة الفتح يجعلها مصدرا، والمصدر لا يوافق الفعل في بنائه، إنما جاء على حذف الزوائد وجعلها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بيده" يجوز أن يتعلق بـ "اغترف" وهو الظاهر. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه نعت لـ "غرفة"، وهذا على قولنا بأن "غرفة"، بمعنى المفعول أظهر منه على قولنا بأنها مصدر، فإن الظاهر من الباء على هذا أن تكون ظرفية، أي غرفة كائنة في يده.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلا قليلا" هذه القراءة المشهورة، وقرأ عبد الله وأبي "إلا قليل"، وتأويله أن هذا الكلام وإن كان موجبا لفظا فهو منفي معنى، فإنه في قوة: لم يطيعوه إلا قليل منهم، فلذلك جعله تابعا لما قبله في الإعراب. قال الزمخشري: "وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى "فشربوا منه" في معنى [ ص: 529 ] "فلم يطيعوه" حمل عليه، ونحوه قول الفرزدق: "لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف" يشير إلى قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1025 - وعض زمان يابن مروان لم يدع     من المال إلا مسحتا أو مجلف

                                                                                                                                                                                                                                      فإن معنى "لم يدع من المال إلا مسحتا" لم يبق من المال إلا مسحت، فلذلك عطف عليه "مجلف" بالرفع مراعاة للمعنى الذي ذكرته لك. وفي البيت وجهان آخران، أحدهما...

                                                                                                                                                                                                                                      ولا بد من التعرض لهذه المسألة لعموم فائدتها فأقول: إذا وقع في كلامهم استثناء موجب نحو: "قام القوم إلا زيدا" فالمشهور وجوب النصب على الاستثناء. وقال بعضهم: يجوز أن يتبع ما بعد "إلا" ما قبلها في الإعراب فتقول: "مررت بالقوم إلا زيد" بجر "زيد"، واختلفوا في تابعية هذا، فعبارة بعضهم أنه نعت لما قبله، ويقول: إنه ينعت بإلا وما بعدها مطلقا سواء كان متبوعها معرفة أم نكرة مضمرا أم ظاهرا، وهذا خارج عن قياس باب النعت لما قد عرفت فيما تقدم. ومنهم من قال: لا ينعت بها إلا نكرة أو معرفة بأل الجنسية لقربها من النكرة. ومنهم من قال: قول النحويين هنا نعت إنما يعنون به عطف البيان. ومن مجيء الإتباع بما بعد "إلا" قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1026 - وكل أخ مفارقه أخوه     لعمر أبيك إلا الفرقدان

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "جاوزه هو والذين آمنوا"" هو" ضمير مرفوع منفصل مؤكد للضمير المستكن في "جاوز".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 530 ] وقوله: والذين يحتمل وجهين، أظهرهما: أنه عطف على الضمير المستكن في "جاوز" لوجود الشرط، وهو توكيد المعطوف عليه بالضمير المنفصل. والثاني: أن تكون الواو للحال، قالوا: ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه، وهذا القائل يجعل "الذين" مبتدأ والخبر "قالوا: لا طاقة" فصار المعنى: "فلما جاوزه والحال أن الذين آمنوا قالوا هذه المقالة" والمعنى ليس عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز إدغام هاء "جاوزه" في هاء "هو"، ولا يعتد بفصل صلة الهاء لأنها ضعيفة، وإن كان بعضهم استضعف الإدغام، قال: "إلا أن تختلس الهاء" يعني فلا يبقى فاصل. وهي قراءة أبي عمرو. وأدغم أيضا واو "هو" في واو العطف بخلاف عنه، فوجه الإدغام ظاهر لالتقاء مثلين بشروطهما. ومن أظهر وهو ابن مجاهد وأصحابه قال: "لأن الواو إذا أدغمت سكنت، وإذا سكنت صدق عليها أنها واو ساكنة قبلها ضمة، فصارت نظير: "آمنوا وكانوا" فكما لا يدغم ذاك لا يدغم هذا". وهذه العلة فاسدة لوجهين، أحدهما: أنها [ما] صارت مثل "آمنوا وكانوا" إلا بعد الإدغام، فكيف يقال ذلك؟ وأيضا فإنهم أدغموا: "يأتي يوم" وهو نظير: "في يوم" و "الذي يوسوس" بعين ما عللوا به.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 531 ] وشرط هذا الإدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضم الهاء كهذه الآية، ومثله "هو والملائكة"" هو وجنوده"، فلو سكنت الهاء امتنع الإدغام نحو: "وهو وليهم" ولو جرى فيه الخلاف أيضا لم يكن بعيدا، فله أسوة بقوله: "خذ العفو وأمر" بل أولى لأن سكون هذا عارض بخلاف: "العفو وأمر".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لا طاقة لنا"" لنا" هو خبر "لا" فيتعلق بمحذوف. ولا يجوز أن يتعلق بطاقة، وكذلك ما بعده من قوله "اليوم" و "بجالوت" لأنه حينئذ يصير مطولا، والمطول ينصب منونا، وهذا كما تراه مبنيا على الفتح، بل "اليوم" و "بجالوت" متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به "لنا".

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء أن يكون "بجالوت" هو خبر "لا"، و "لنا" حينئذ: إما تبيين أو متعلق بمحذوف على أنه صفة لطاقة.

                                                                                                                                                                                                                                      والطاقة: القدرة وعينها واو، لأنها من الطوق وهو القدرة، وهي مصدر على حذف الزوائد، فإنها من "أطاق" ونظيرها: أجاب جابة، وأغار غارة، وأطاع طاعة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 532 ] و"جالوت" اسم أعجمي ممنوع الصرف، لا اشتقاق له، وليس هو فعلوتا من جال يجول كما تقدم في طالوت، ومثلهما داود.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "كم من فئة"" كم" خبرية فإن معناها التكثير، ويدل على ذلك قراءة أبي: "وكائن" وهي للتكثير ومحلها الرفع بالابتداء و "من فئة" تمييزها، و "من" زائدة فيه. وأكثر ما يجيء مميزها ومميز "كائن" مجرورا بـ من، ولهذا جاء التنزيل على ذلك، وقد تحذف "من" فيجر مميزها بالإضافة لا بـ من مقدرة على الصحيح، وقد ينصب حملا على مميز "كم". الاستفهامية، كما أنه قد يجر الاستفهامية حملا عليها وذلك بشروط مذكورة في النحو. ومن مجيء مميز "كائن" منصوبا قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1027 - اطرد اليأس بالرجاء فكائن     آلما حم يسره بعد عسر

                                                                                                                                                                                                                                      وأجازوا أن يكون "من فئة" في محل رفع صفة لـ "كم" فيتعلق بمحذوف. و "غلبت" هذه الجملة هي خبر "كم" والتقدير: كثير من الفئات القليلة غالبة الفئات الكثيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "فئة" قولان أحدهما: أنها من فاء يفيء أي: رجع فحذفت عينها ووزنها فلة. والثاني: أنها من فأوت رأسه أي: كسرته، فحذفت لامها ووزنها فعة كمئة، إلا أن لام مئة ياء ولام هذه واو، ومعناها على كل من الاشتقاقين صحيح، فإن الجماعة من الناس يرجع بعضهم إلى بعض، وهم أيضا قطعة من الناس كقطع الرأس المكسرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بإذن الله" فيه وجهان، أظهرهما: أنه حال فيتعلق بمحذوف، [ ص: 533 ] والتقدير: ملتبسين بتيسير الله لهم. والثاني: أن الباء للتعدية ومجرورها مفعول به في المعنى، ولهذا قال أبو البقاء: "وإن شئت جعلتها مفعولا به".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "والله مع الصابرين" مبتدأ وخبر، وتحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون محلها النصب على أنها من مقولهم. والثاني: أنها لا محل لها من الإعراب، على أنها استئناف أخبر الله تعالى بها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية