الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1194 ص: وقالوا: وأما حديث أم سلمة الذي رواه ابن أبي مليكة ، قد اختلف الذين رووه في لفظه، فرواه بعضهم على ما ذكرنا، ورواه آخرون على غير ذلك.

                                                حدثنا ربيع المؤذن ، قال: ثنا شعيب بن الليث ، قال: ثنا الليث ، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ، عن يعلى : "أنه سأل أم سلمة -رضي الله عنها- عن قراءة النبي -عليه السلام-، فنعتت له قراءة مفسرة حرفا حرفا " .

                                                فقالوا: ففي هذا أن ذكر قراءة بسم الله الرحمن الرحيم من أم سلمة تنعت بذلك قراءة رسول الله -عليه السلام- لسائر القرآن كيف كانت، وليس في ذلك دليل أن رسول الله -عليه السلام- كان يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم فمعنى هذا غير معنى حديث ابن جريج ، وقد يجوز أيضا أن يكون تقطيع فاتحة الكتاب الذي في حديث ابن جريج كان من ابن جريج أيضا حكايته منه للقراءة المفسرة حرفا حرفا، التي حكاها الليث عن ابن أبي مليكة ، فانتفى بذلك أن يكون في حديث أم سلمة ذلك حجة لأحد.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قال أهل المقالة الثانية في الجواب عن حديث أم سلمة الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن إسناد هذا الحديث مضطرب؛ لأن بعضهم رواه عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة على ما ذكره الطحاوي في أول الباب في بيان استدلال أهل المقالة الأولى، وبعضهم رواه عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مالك عن أم سلمة ، وهذا أصح من الأول.

                                                [ ص: 579 ] وقد أشار الترمذي : إلى ذلك حيث أسنده من حديث يعلى : "أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي -عليه السلام-..." فذكر الحديث بمعناه.

                                                ثم قال: غريب حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث الليث ، عن ابن أبي مليكة ، عن يعلى عن أم سلمة . وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن أبي مليكة ، عن أم سلمة : "أنه - عليه السلام- كان يقطع قراءته " ، وحديث الليث أصح؛ ولأجل ذلك قال الطحاوي في كتاب "الرد على الكرابيسي ": لم يسمع ابن أبي مليكة هذا الحديث من أم سلمة ، واستدل عليه بهذا الإسناد الذي ذكره ها هنا، فإذا كان الطريق الصحيح هو الذي أخرجه الليث ، عن ابن أبي مليكة ، عن يعلى ، عن أم سلمة ، فليس فيه حجة لهم؛ لأن فيه ذكر قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم من أم سلمة نعت منها لقراءة رسول الله -عليه السلام- لسائر القرآن كيف كانت، وليس فيه ما يدل أن رسول الله -عليه السلام- كان يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم فحينئذ يكون معناه غير معنى الحديث الذي رواه ابن جريج .

                                                وأيضا فإنه يمكن أن أم سلمة سمعته سرا في بيتها لقربها منه، وأيضا كان قصدها الإخبار بأنه - عليه السلام- كان يرتل قراءته ولا يسردها .

                                                (قوله: "وقد يجوز أيضا...") إلى آخره جواب بطريق التسليم، بيانه: أنا ولو سلمنا أن طريق حديث ابن جريج صحيح، ولكنا لا نسلم أنه يدل على ما ذكرتم؛ لأنه يجوز أن يكون تقطيع فاتحة الكتاب في حديث ابن جريج كان منه حكايته للقراءة المفسرة حرفا حرفا، التي حكاها الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة ، فحينئذ لا يكون في حديث أم سلمة حجة لأحد مطلقا، سواء كان من هذا الطريق أو من ذاك الطريق.

                                                [ ص: 580 ] وقد ذكرنا أن أبا داود ، وأحمد ، والدارقطني ، والحاكم ، والطبراني ، والبيهقي : رووا هذا الحديث بالطريق الأول كما سردناه عن الكل، وليس في رواية أبي داود وأحمد والطبراني ذكر الصلاة، إنما هو إخبار عن أم سلمة عن ترتيل قراءة النبي -عليه السلام-، وأما رواية الدارقطني والحاكم والبيهقي فمدارها على عمر بن هارون البلخي وهو مجروح تكلم فيه غير واحد من الأئمة، فقال أحمد : لا أروي عنه شيئا. وقال ابن معين : ليس بشيء. وقال ابن المبارك : كذاب. وقال النسائي : متروك الحديث. وسئل عنه ابن المديني فضعفه جدا. ونقل ابن الجوزي عن يحيى فقال: كذاب خبيث ليس حديثه بشيء. وقال مرة: كذاب. وقال أبو داود : غير ثقة. وقال ابن حبان : يروي عن الثقات المعضلات ويدعي شيوخا لم يرهم. وقال صالح بن محمد : كان كذابا. والبيهقي ذكر حديث يعلى في باب ترتيل القراءة، وتركه في باب الدليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية تامة من الفاتحة؛ لكونه لا يوافق مقصوده، ولأن فيه بيان علة حديثه، والعجب ثم العجب منه روى هذا الحديث عن عمر بن هارون وألان القول فيه، وقال: ورواه عمر بن هارون وليس بالقوي، عن ابن جريج . وذكره في باب لا شفعة فيما ينقل، أنه ضعيف لا يحتج به، وكذلك العجب من الحاكم كيف يودع هذا الحديث الضعيف السقيم في كتابه الذي سماه "صحيحا" وماذا إلا تحامل وتعصب، والدين لا يقوم بهذا، والحق أحق أن يتبع، وقال الذهبي : في "مختصر سنن البيهقي ": هذا خبر منكر شذ به [ ص: 581 ] عمر بن هارون ، وقد قال ابن معين وغيره: كذاب. وقال النسائي وغيره: متروك. وأيضا فإن كان عدها بلسانه في الصلاة فذلك مناف للصلاة، وإن كان بأصابعه فلا يدل على أنها آية من الفاتحة. انتهى.

                                                ويقال: المحفوظ في هذا الحديث والمشهور: أنه ليس في الصلاة، وإنما قوله: "في الصلاة" زيادة من عمر بن هارون ، وقبول الزيادة من ثقة فيه كلام فضلا عن زيادة كذاب متروك لا شيء، ثم رجال حديث يعلى هذا ثقات، وهو يعلى بن مالك ، ويقال: مملك. وثقه ابن حبان .

                                                وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بتكبير الابن وتصغير الأب، وأبو مليكة اسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول ، روى له الجماعة.

                                                والحديث أخرجه الترمذي كما ذكرنا، وأخرجه أبو داود : أيضا ثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي ، نا الليث ، عن ابن أبي مليكة ، عن يعلى بن مملك : "أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله -عليه السلام- وصلاته، فقالت: وما لكم وصلاته، كان يصلي، وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، حتى يصبح، ونعتت قراءته، فإذا هي تنعت حرفا حرفا" .

                                                وأخرجه النسائي أيضا.

                                                قوله: ( تنعت ) من النعت، وهو وصف الشيء بما فيه من حسن، ولا يقال في المذموم إلا أن يتكلف متكلف فيقول: نعت سوء.

                                                قوله: ( حرفا حرفا ) أي: كلمة كلمة، أرادت أنه كان يقرأ بالترتيل والتجويد والتأني ورعاية مخارج الحروف وغير ذلك من أنواع التجويد، وانتصاب "حرفا حرفا" كانتصاب "درهما درهما" في قول القائل: خذوا هذا الألف واقتسموا درهما درهما. وفي الحقيقة هي حال، ومعناه: اقتسموا حال كونها معدودة بهذا العدد،

                                                [ ص: 582 ] وذلك لأن غير المشتق يقع حالا بالتأويل، والمعنى في الحديث: فوصفت قراءة ظاهرة حال كونها معدودة بحرف حرف، و: "حرفا" الثاني كرر للتأكيد، فافهم.




                                                الخدمات العلمية