الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                97 حدثنا أحمد بن الحسن بن خراش حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا معتمر قال سمعت أبي يحدث أن خالدا الأثبج ابن أخي صفوان بن محرز حدث عن صفوان بن محرز أنه حدث أن جندب بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير فقال اجمع لي نفرا من إخوانك حتى أحدثهم فبعث رسولا إليهم فلما اجتمعوا جاء جندب وعليه برنس أصفر فقال تحدثوا بما كنتم تحدثون به حتى دار الحديث فلما دار الحديث إليه حسر البرنس عن رأسه فقال إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين وإنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله وإن رجلا من المسلمين قصد غفلته قال وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد فلما رفع عليه السيف قال لا إله إلا الله فقتله فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع فدعاه فسأله فقال لم قتلته قال يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلانا وفلانا وسمى له نفرا وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال لا إله إلا الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلته قال نعم قال فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة قال يا رسول الله استغفر لي قال وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة قال فجعل لا يزيده على أن يقول كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                أما ( خالد الأثبج ) بفتح الهمزة وبعدها ثاء مثلثة ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم جيم . قال أهل اللغة الأثبج : هو عريض الثبج بفتح الثاء والباء وقيل : ناتئ الثبج . والثبج ما بين الكاهل والظهر . وأما ( صفوان بن محرز ) فبإسكان الحاء المهملة وبراء ثم زاي . وأما ( جندب ) فبضم الدال . وفتحها . وأما ( عسعس بن سلامة ) فبعينين وسينين مهملات والعينان مفتوحتان والسين بينهما ساكنة . قال أبو عمر بن عبد البر في ( الاستيعاب ) : هو بصري روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون : إن حديثه مرسل ، وإن لم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قال البخاري في تاريخه : حديثه مرسل . وكذا ذكره ابن أبي حاتم وغيره في التابعين . قال البخاري وغيره . كنية ( عسعس ) أبو صفرة وهو تميمي بصري وهو من الأسماء المفردة لا يعرف له نظير . والله أعلم .

                                                                                                                وأما لغات الباب وما يشبهها فقوله في أول الباب : ( يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار ؟ ) هكذا هو في أكثر الأصول المعتبرة . وفي بعضها أرأيت لقيت بحذف ( إن ) والأول هو الصواب .

                                                                                                                وقوله : ( لاذ مني بشجرة ) أي اعتصم مني وهو معنى قوله : قالها متعوذا أي معتصما وهو بكسر الواو .

                                                                                                                [ ص: 279 ] قوله : ( أما الأوزاعي وابن جريج في حديثهما ) هكذا هو في أكثر الأصول في حديثهما بفاء واحدة وفي كثير من الأصول : ( ففي ) حديثهما بفاءين . وهذا هو الأصل والجيد . والأول أيضا جائز فإن الفاء في جواب ( أما ) يلزم إثباتها إلا إذا كان الجواب بالقول فإنه يجوز حذفها إذا حذف القول ، وهذا من ذاك فتقدير الكلام أما الأوزاعي وابن جريج فقالا في حديثهما كذا . ومثل هذا في القرآن العزيز وكلام العرب كثير . فمنه في القرآن قوله عز وجل : فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم أي فيقال لهم أكفرتم ؟ وقوله عز وجل : وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم والله أعلم .

                                                                                                                وقوله : ( فلما أهويت لأقتله ) أي ملت . يقال : هويت وأهويت . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ ) الفاعل في قوله أقالها هو القلب ، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان ، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه ، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان . وقال : أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب يعني وأنت لست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب ، يعني ولا تطلب غيره . وقوله ( حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ ) معناه لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو عني ما تقدم . وقال هذا الكلام من عظم ما وقع فيه .

                                                                                                                وقوله : ( فقال سعد وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة ) أما ( سعد ) فهو ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - . وأما ( ذو البطين ) فهو بضم الباء تصغير بطن . قال القاضي عياض - رحمه الله - : قيل لأسامة ذو البطين لأنه كان له بطن عظيم .

                                                                                                                وقوله : ( حسر البرنس عن رأسه فقال : إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثا ) .

                                                                                                                قوله : ( حسر ) أي كشف ، و ( البرنس ) بضم الباء والنون قال أهل اللغة : هو كل ثوب رأسه ملتصق به ، دراعة كانت أو جبة أو غيرهما .

                                                                                                                وأما قوله : ( أتيتكم ولا أريد أن أخبركم ) فكذا وقع في جميع الأصول وفيه إشكال من حيث إنه قال في أول الحديث ( بعث إلى عسعس فقال : اجمع لي نفرا من إخوانك حتى أحدثهم ، ثم يقول بعده أتيتكم ولا أريد أن أخبركم ) ; فيحتمل هذا الكلام وجهين أحدهما : أن تكون ( لا ) زائدة كما في قول الله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب وقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد والثاني : أن يكون على ظاهره أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، بل أعظكم وأحدثكم بكلام من عند نفسي لكني الآن أزيدكم على ما كنت نويته فأخبركم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثا ، وذكر الحديث . والله أعلم .

                                                                                                                وقوله ( وكنا نحدث أنه أسامة ) هو بضم النون من نحدث وفتح الدال .

                                                                                                                وقوله ( فلما رجع عليه السيف ) كذا في بعض الأصول المعتمدة ( رجع ) بالجيم وفي بعضها ( رفع ) بالفاء وكلاهما صحيح والسيف منصوب على الروايتين فرفع لتعديه ورجع بمعناه فإن رجع يستعمل لازما ومتعديا ، والمراد هنا [ ص: 280 ] المتعدي . ومنه قول الله عز وجل : فإن رجعك الله إلى طائفة وقوله تعالى : فلا ترجعوهن إلى الكفار . والله أعلم .

                                                                                                                واعلم أن في إسناد بعض روايات هذا الحديث ما أنكره الدارقطني وغيره وهو قول مسلم حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، وعبد بن حميد قالا : أنبأ عبد الرزاق أنبأ معمر ح وحدثنا إسحاق ابن موسى حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج جميعا عن الزهري بهذا الإسناد فهكذا وقع هذا الإسناد في رواية الجلودي . قال القاضي عياض : ولم يقع هذا الإسناد عند ابن ماهان يعني رفيقا الجلودي . قال القاضي : قال أبو مسعود الدمشقي : هذا ليس بمعروف عن الوليد لهذا الإسناد عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله . قال : وفيه خلاف على الوليد وعلى الأوزاعي . وقد بين الدارقطني في كتاب ( العلل ) الخلاف فيه وذكر أن الأوزاعي يرويه عن إبراهيم بن مرة . واختلف عنه فرواه أبو إسحاق الفزاري ، ومحمد بن شعيب ، ومحمد بن حميد والوليد بن مزيد عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن الزهري ، عن عبيد الله بن الخيار ، عن المقداد ، لم يذكروا فيه عطاء بن يزيد . واختلف عن الوليد بن مسلم فرواه الوليد القرشي عن الوليد عن الأوزاعي ، والليث بن سعد عن الزهري عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد ، لم يذكر فيه عطاء وأسقط إبراهيم بن مرة وخالفه عيسى بن مساور فرواه عن الوليد عن الأوزاعي عن حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد لم يذكر فيه إبراهيم بن مرة ، وجعل مكان عطاء بن يزيد حميد بن عبد الرحمن . ورواه الفريابي عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن الزهري مرسلا عن المقداد قال أبو علي الجياني : الصحيح في إسناد هذا الحديث ما ذكره مسلم أولا من رواية الليث ومعمر ويونس وابن جريج ، وتابعهم صالح ابن كيسان . هذا آخر كلام القاضي عياض - رحمه الله - . قلت : وحاصل هذا الخلاف والاضطراب إنما هو في رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ، وأما رواية الليث ومعمر ويونس وابن جريج فلا شك في صحتها . وهذه الروايات هي المستقلة بالعمل وعليها الاعتماد . وأما رواية الأوزاعي فذكرها متابعة ، وقد تقرر عندهم أن المتابعات يحتمل فيها ما فيه نوع ضعف لكونها لا اعتماد عليها إنما هي لمجرد الاستئناس ; فالحاصل أن هذا الاضطراب الذي في رواية الوليد عن الأوزاعي لا يقدح في صحة أصل هذا الحديث ، فلا خلاف في صحته . وقد قدمنا أن أكثر استدراكات الدارقطني من هذا النحو . لا يؤثر ذلك في صحة المتون . وقدمنا أيضا في الفصول اعتذار مسلم - رحمه الله - عن نحو هذا بأنه ليس الاعتماد عليه . والله أعلم .

                                                                                                                وأما معاني الأحاديث وفقهها فقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي قال : لا إله إلا الله ( لا تقتله فإن قتلته فإنه في منزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ) ، اختلف في معناه ; فأحسن ما قيل فيه وأظهره ما قاله الإمام الشافعي ، وابن القصار المالكي ، وغيرهما أن معناه فإنه معصوم الدم ، محرم قتله [ ص: 281 ] بعد قوله : لا إله إلا الله كما كنت أنت قبل أن تقتله . وإنك بعد قتله غير معصوم الدم ، ولا محرم القتل كما كان هو قبل قوله : لا إله إلا الله . قال ابن القصار : يعني لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك . قال القاضي : وقيل : معناه إنك مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم وإن اختلفت أنواع المخالفة والإثم فيسمى إثمه كفرا وإثمك معصية وفسقا . وأما كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب على أسامة قصاصا ولا دية ولا كفارة فقد يستدل به لإسقاط الجميع ، ولكن الكفارة واجبة ، والقصاص ساقط للشبهة ; فإنه ظنه كافرا وظن أن إظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال لا يجعله مسلما . وفي وجوب الدية قولان للشافعي ، وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء . ويجاب عن عدم ذكر الكفارة بأنها ليست على الفور بل هي على التراخي وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول . وأما الدية على قول من أوجبها فيحتمل أن أسامة كان في ذلك الوقت معسرا بها فأخرت إلى يساره .

                                                                                                                وأما ما فعله جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - من جمع النفر ووعظهم ففيه أنه ينبغي للعالم والرجل العظيم المطاع وذي الشهرة أن يسكن الناس عند الفتن ويعظهم ويوضح لهم الدلائل . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أفلا شققت عن قلبه ) فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر ، والله يتولى السرائر .

                                                                                                                وأما قول أسامة في الرواية الأولى : ( فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، وفي الرواية الأخرى : ( فلما قدمنا بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : يا أسامة أقتلته ؟ ) وفي الرواية الأخرى : ( فجاء البشير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبر الرجل ، فدعاه يعني أسامة ، فسأله ) فيحتمل أن يجمع بينها بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيء بعد قتله ، ونوى أن يسأل عنه ، فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة ، وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا بعد قدومهم فسأل أسامة فذكره وليس في قوله : ( فذكرته ) ما يدل على أنه قاله ابتداء قبل تقدم علم النبي - صلى الله عليه وسلم - به . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية