كتاب (النبأ العظيم) للشيخ محمد عبد دراز جدير بالتعريف، بل بالدراسة والعناية، وهو من أجلِّ المؤلفات التي كتبت حول القرآن الكريم. وللتَّعرف على مضمون هذا الكتاب ومكانته في المكتبة القرآنية نستجلي العناوين الفرعية التالية:
قصة الكتاب وهدفه
يذكر المؤلف أن أصل كتابه بحوث في القرآن الكريم، قدمها بين يدي دروس التفسير لطلبة كلية أصول الدين بالجامع الأزهر، أرد بها أن ينعت كتاب الله بحليته وخصائصه، وأن يرفع النقاب عن جانب من الحقائق المتصلة به، ويرسم الخطة التي ينبغي سلوكها في دراسته.
فالكتاب إذن يهدف إلى أمور ثلاثة:
أولها: بيان خصائص الكتاب العزيز.
ثانيها: دفع بعض الشبهات عنه.
ثالثها: وضع منهج للتعامل معه دراسة وفهماً.
المؤلف والقارئ
في فاتحة كتابه يبين المؤلف أنه لا يُشترط في قارئ هذا الكتاب أن يكون منضوياً تحت راية معينة، ولا معتنقاً لمذهب معين، ولا يفترض فيه تخصصاً في ثقافة معينة، ولا حصولاً على مؤهل معين، بل غاية ما يبغيه من قارئه أن يعود بنفسه صفحة بيضاء، إلا من فطرة سليمة، وحاسة مرهفة، ورغبة صادقة في الوصول إلى الحق في شأن هذا القرآن؛ ما يعني أن الاستفادة من هذا الكتاب لا تحصل إلا لمن أقبل على قراءته غيرَ معتنق لأفكار مسبقة، تكون حاجزاً بينه وبين ما جاء فيه من حقائق.
منهج الكتاب
نهج المؤلف في كتابه شيئاً من التفصيل والتحليل، وشيئاً من التطبيق والتمثيل في تناول موضوع كتابه، ولم يكتفِ بالإشارة حيث أمكنت العبارة، ولا بالبرهان إذا أمكن العِيان. فجاء الكتاب جامعاً بين التنظير والتطبيق.
موضوعات الكتاب
تضمن الكتاب بحثين رئيسين: أولهما: في تحديد معنى القرآن. وثانيهما: في بيان مصدر القرآن.
فيما يتعلق بالبحث الأول ذكر المؤلف الأصل اللغوي للفظ (القرآن) و(الكتاب). ثم توقف لبيان المعنى الاصطلاحي، وخلص بهذا الصدد إلى أنه من المتعذر تحديد معنى القرآن بالتعريفات المنطقية، وأن ما ذكره العلماء من تعريف له، فإنما أرادوا به تقريب معناه، وتمييزه عن بعض ما عداه.
ومع هذا، فإن المؤلف رأى أنه إن كان لا بد من وضع تعريف محدد للقرآن، فيُعرَّف بأنه: هو ما بين الدفتين، أو: هو {بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين}، إلى {من الجنة والناس}.
وتضمن هذا البحث بيان سر اختصاص القرآن بالخلود وعدم التحريف؛ والتفرقة بين القرآن وبين الأحاديث النبوية والأحاديث القدسية. هذا مجمل ما تضمنه هذا المبحث.
البحث الثاني -وهو معظم الكتاب- جاء تحت عنوان: في بيان مصدر القرآن وإثبات أنه من عند الله بلفظه ومعناه. وقد اشتمل هذا البحث على تمهيد، وفصول ثلاثة. جاء كل فصل منها تحت عنوان: (مرحلة).
في التمهيد يقيم المؤلف البرهان على أن النص القرآني كنص يدل على أن القرآن ليس من تأليف النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن القرآن صرح بأنه لا صنعة فيه لمحمد، ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه. وقرر بأن هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ليست من جنس (الدعاوى) فتحتاج إلى بينة، وإنما هي من نوع (الإقرار) الذي يؤخذ به صاحبه، ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه.
ومن جملة ما يقرره المؤلف بهذا الصدد أنه لا يوجد للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه، ولا عند أحد من البشر، وأن كل من حاول أن يجعل هذا القرآن عملاً إنسانيًّا أعياه أمره، وأقام الحجة على فشله باضطرابه ولجاجته، وإحالته ومكابرته.
ويقدم المؤلف العديد من الأدلة من سيرته صلى الله عليه وسلم، مشفوعة بالأمثلة؛ ليبرهن على أن هذا القرآن {تنـزيل العزيز الرحيم} (يس:5). ومن ثم يتوجه إلى قارئه إن كان طالباً للحق، بأن ينظر في القرآن من أي النواحي أحب: من ناحية أسلوبه، أو من ناحية علومه، أو من ناحية الأثر الذي أحدثه في العالم؛ ليستيقن أن هذا القرآن ليس من تأليف محمد، فضلاً عن أن يكون من تأليف غيره من البشر.
في المرحلة الأولى من البحث الثاني، يبين المؤلف أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاء ذاتياً من نفس محمد صلى الله عليه وسلم، ويقيم الأدلة العقلية والأمثلة لإثبات هذه الحقيقة.
في المرحلة الثانية من البحث يبين المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أنه قد تلقى القرآن من مصدر خارجي، ويقيم البرهان هنا على أن هذا المصدر لا يمكن أن يكون مصدراً بشريًّا؛ وإنما هو مصدر خارج عن نطاق البشر وإمكاناتهم.
في المرحلة الثالثة يبحث المؤلف في ظروف الوحي وملابساته الخاصة عن مصدر القرآن، ثم ينتقل لبيان ظاهرة الوحي وتحليل عوارضها وملابساتها.
في المرحلة الرابعة -وهي أوسع المراحل بحثاً- يلتمس المؤلف الدليل من القرآن نفسه، ليبين أنه خارج عن كلام البشر، وأنه كلام رب العالمين.
يقرر المؤلف في هذه المرحلة أن طبيعة القرآن نفسه حجة على سماويته، ويعمد بهذا الصدد إلى بيان حدود القدرة البشرية، وحد الإعجاز القرآني، ويتوقف بشكل موسع عند الإعجاز اللغوي. ويقرر أن القرآن معجزة لغوية، ويقدم المؤلف بهذا الخصوص ستة تساؤلات، قد ترد على قضية الإعجاز اللغوي، ويجيب عنها بالتفصيل. ثم يعرِّج على المحاولات التي سعت لمعارضة القرآن، ويبين كيف أنها فشلت وأصبحت هشيماً تذروه الرياح.
بعد ذلك يلقي المؤلف بعض النظرات حول خصائص القرآن، ويجمل تلك الخصائص في خاصيتين اثنتين:
الخاصية الأولى: تأليفه الصوتي في شكله وجوهره، ويسمي هذه الخاصية: الجمال التوقيعي. وهو يقصد من ذلك تسليط الضوء على تميز الظاهر الصوتية في القرآن، في توزيع حركاته وسكناته، ومداته وغناته. ويقرر أن هذه الخاصية في القرآن لا تخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب.
الخاصية الثانية: يسميها المؤلف الجمال التنسيقي، ويقصد بها جانب التركيب اللفظي الذي يتحلى به القرآن الكريم. ومن ثم يلقي المؤلف نظرات في لب البيان القرآني وخصائصه وما امتاز به عن سائر كلام الناس. يبين ذلك من خلال عنوانين اثنين:
الأول: القرآن في فقرة فقرة منه. يبين المؤلف تحت هذا العنوان أن أسلوب القرآن هو ملتقى نهايات الفضيلة البيانية، على تباعد ما بين أطرافها. ومن جملة الأساليب البيانية القرآنية التي يذكرها المؤلف بهذا الصدد الثنائيات التالية:
- القصد في اللفظ، والوفاء بحق المعنى.
- خطاب العامة، وخطاب الخاصة.
- إقناع العقل، وإمتاع الوجدان.
- البيان، والإجمال.
ثم يذكر مثالاً تطبيقاً على ذلك، وهو قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} (البقرة:91).
ويخلص المؤلف على ضوء ذلك أن القرآن إيجاز كله، سواء مواضع إجماله، ومواضع تفصيله. وأنه ليس فيه كلمة مقحمة، ولا حرف زائد زيادة معنوية. وهو يستثمر برفق أقل ما يمكن من اللفظ، في توليد أكثر ما يمكن من المعاني، فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة، وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى.
الثاني: العنوان الثاني: القرآن في سورة سورة منه. ويعبر المؤلف عن هذا العنوان بقوله: الوحدة في الكثرة، بمعنى تناسق ألفاظ القرآن، وائتلاف عناصره، وأخذ بعضها بحُجُز بعض، حتى تنتظم منها وحدة محكمة لا انفصام لها.
يقول المؤلف حول هذه الخاصية: "لن نجد في نظام سور القرآن فيما إذا كانت هذه السورة قد نزلت دفعة واحدة أو على دفعات...إنك لتقرأ السورة الطويلة يحسبها الجاهل أضغاثاً من المعاني، حشيت حشواً، وأوزاعاً من المباني جمعت عفواً، فإذا هي -لو تُدبِّرت- بِنية متماسكة، قد بُنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شُعَب وفصول". ثم يأخذ المؤلف سورة البقرة نموذجاً لتوضيح هذه الخاصية القرآنية.
السياسة الرشيدة
يرشد المؤلف بهذا الصدد قارئه إلى منهج التعامل مع القرآن، ويضع له سياسية لدراسة النسق القرآني، تقضي بألا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين أجزاء السورة إلا بعد أن يُحكم النظر في السورة كلها، بإحصاء أجزائها، وضبط مقاصدها على وجه يكون معواناً له على السير في تلك التفاصيل عن بينة. ثم يتوجه المؤلف لقارئه بالقول: خذ نفسك بالغوص في طلب أسراره البيانية...فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف، فإياك أن تعجل كما يعجل الظانون، ولكن قل قولاً سديداً، هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف، قل: الله أعلم بأسرار كلامه، ولا علم لنا إلا بتعليمه. ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس، فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار...فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل...فجِدَّ في الطلب، وقل: رب زدني علماً، فعسى الله أن يفتح لك باباً من الفهم تكشف به شيئاً مما عمي على غيرك {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة:257).
مزية الكتاب
لا شك أن كتاب (النبأ العظيم) يُعدُّ دراسة قيِّمة للباحث عن الحقيقة بخصوص هذا القرآن من جهة مصدره، ومن جهة التعرف على خصائصه، ومن جهة الموقف الرشيد من دراسته. فحري بكل مهتم بهذا القرآن أن يعود إلى هذا الكتاب ليستفيد منه، ففيه من علم العالم ما لا تجده في غيره، وفيه من أدب الأديب ما يعز الوقوف عليه في كثير من الكتب.
بقي أن تعلم أخيراً، أن الكتاب بشكله المطبوع يدل على أن المؤلف لم يُكتب له من العمر كي يتم كتابه، حيث إن ثمة عناوين ذكرها المؤلف في مقدمة كتابه كان ينوي الكتابة فيها، كموضوع الإعجاز العلمي في القرآن، والإعجاز الإصلاحي كما سماه. وجاء في تضاعيف كلامه في الكتاب أنه يريد أن يتحدث عن القرآن فيما بين سورة وسورة، وعن القرآن جملة. وقد جاء الكتاب خالياً مما أشار إليه المؤلف.
طُبع هذا الكتاب طبعات عديدة، والطبعة المعتمدة هنا هي طبعة دار السعادة بمصر، وتاريخ طباعتها سنة 1379-1960. وجاءت هذه الطبعة في نحو خمس عشرة ومائتي صفحة.