سبل الإسلام في القضاء على ظاهرة التشاؤم والتطيّر
لم يترك الإسلام البشريّة نهبةً لهذه الأفكار الباطلة والمعتقدات البالية خصوصاً مع ارتباطها بصميم العقيدة وتعلّقها بحياة كثير من الناس، فقد أبانت الشريعة المنهج السليم والعلاج القويم الذي يعيد التوازن للنفس والرشد للعقل، لتتمكّن من النظر المتبصّر والفكر المتعقّل في التعامل مع مختلف القضايا ، وبعد تشخيص الداء يكون وصف الدواء.
فإذا كان أصل العلّة ومنشؤها النظر المشوّش للمستقبل، فهنا يأتي التذكير بمسألة الإيمان بالقضاء والقدر وضرورة الرّضا بالمقدور والتأكيد على ركنيّته، فلسنا إذن أمام سنّة مستحبّة ولا مجرّد واجبٍ مطلوب، بل نحن أمام سادس ركنٍ من أركان الإيمان لا يتمّ إيمان العبد إلا به، ومن خلاله نؤمن بعلم الله الأزلي الواسع، الذي أحاط بكل شيءٍ علماً، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض، وبأنّ الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأمر القلم أن يكتب كلّ ما سيحدث حتى قيام الساعة، وأنه لا يقع شيء في الكون إلا بمشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن نؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه هو الذي يُدبّر الأمور ويُصرّف الأقدار، كما دلت على ذلك النصوص الشرعيّة الكثيرة.
فإذا تكاملت هذه الصورة أورثت العبد القدرة على مواجهة المصائب والأحداث، فلا يستسلم أو ينهار ، ولا تضعف نفسه أو يعيش رهن المخاوف، ولا يجد الهلع إليه سبيلاً، بل تجده مطمئنّ النفس هاديء البال، لأنه يعلم أن الله هو المعطي وهو المانع، وأن الرزق مقسوم والأجل محدود، فيسلَّم أمره إلى ربّه ، ويقنع بما رُزِق، موقناً بأن ما كُتب له سيأتيه ولو لم يرد أهل الأرض، وأن ما لم يكتب لن يأتيه ولو وقفت معه جميع الخلائق.
والمطلوب من العباد أن يُحسنوا الظنّ بخالقهم ورازقهم ومدبّر أمورهم؛ فإن الله لا يخيب لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( قال الله عزّ وجل: أنا عند حسن ظنِّ عبدي بي ) متفق عليه، وهذا الرجاء من العبد لخالقه مرتبطٌ بتمام ثقته بالحكمة الإلهيّة وتمام عدله وإحسانه، فإذا قضى للعبد ما يرجوه ويريده من مسارّ الدنيا ومطلوباتها فذلك من نفحات إحسانه، وإذا قضى عليه ما يسوؤه ويحاذره أيقن أن الخيرة فيما اختاره الله له، وأن مآلات ما جرى عليه خيرٌ للعبد في دنياه وآخرته، فيستوي عنده العسر واليسر، وينشرح صدره لذلك.
وحين يُقدم المرء على أمرٍ ويخاف ألا يكون في صالحه فلا عليه سوى أن يُلقي بظنونه وراء ظهره، ثم يُسلم أمره لله ويتوكّل عليه ويفوّض أحواله إليه، ومن توكل عليه كفاه، ومن لاذ بحماه حفظه ووقاه، ولذلك قال ابن مسعود: "وما منا إلا..ولكن الله يذهبه بالتوكل" رواه أبو داوود.
لكن قد يقف المرء أحياناً أمام مفترق طرقٍ ويُخيّر بينهما فلا يدري أيهما يختار وماذا يُرجّح، فبدلاً من اللجوء إلى تصرّفات غير عقلانيّة كزجر الطير حقّق الله هذه الحاجة من خلال تشريع أمرين اثنين، أولهما: المشورة، وهي التي تمكّن الإنسان من اختيار الأصلح والأنفع من خلال تبادل الرأي مع أرباب العقول الراجحة، والبديهة الحاضرة، والفهوم السليمة، بعد النظر في آرائهم، والتأمّل في مقترحاتهم، ومعلومٌ أن الصواب إلى الجماعة أقرب، وتأكيداً لذلك طبّق النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا المنهج على نفسه فعلى الرغم من سداد رأيه وثاقب نظره وتسديده بالوحي لم يكن أحدٌ أكثر مشورةً لأصحابه منه عليه الصلاة والسلام، ليكون أنموذجاً عمليّاً وقدوة حيّة للبشريّة.
أما الأمر الآخر فهو ما شرعه الله لنا من الاستخارة، وهي العلاج الناجع لمن اختلطت عليه الأمور والتبست عليه، فلم يستطع أن يوازن بين الاحتمالات ويحسم أمره في الاختيار، فيلجأ إلى الله تعالى بعد أن يتبرّأ من حوله وقوّته ويطلب منه أن يوفّقه إلى خير الأمرين، وباللجوء إلى عالم الغيب والشهادة تزول الحيرة فلا يُقدم المرء إلا وهو واثق النفس.
والاستخارة بصلاتها ودعائها قبل الشروع في الأمور عظيمة الأثر كثيرة النفع، ولذلك كان النبي –صلى الله عليه وسلم- شديد العناية بها حريصاً على تعليمها، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: " كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: ( إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضّني به )" رواه البخاري.
ولا مراء في أن الاستخارة تحوي من أسرار الشريعة وكمالها وعظمها ما لا تهتدي إليها العقول على وجه التفصيل وإن أدركتها جملة، فقد: " عوّض رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمته بهذا الدعاء عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب، عوّضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكل وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبيده رحمةً لم يستطع أحد حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه، من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه، فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد، طالع أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر".
وإذا عرض للعبد شعور بالتطير والتشاؤم ، فعليه ألا يلتفت إليه، وإذا وقع في نفسه شيء من ذلك ردّه بالدعاء النبوي : ( اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك ) رواه أحمد، ويقول أيضاً: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) رواه أبو داوود .
ومن سبل العلاج التي جاءت بها الشريعة النهي ابتداءً عن تنفير الطيور عن أعشاشها، وهو المذكور في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أقروا الطير على مكناتها) رواه أبوداوود، وقد مرّ معنا من قبل معنى الحديث.
وفي مقابل الطيرة والتشاؤم تأتي عادة حسنة دعا إليها الإسلام، وهي التفاؤل، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يعجبه الفأل رواه أحمد . وكان: ( إذا خرج من بيته يحب أن يسمع: يا راشد يا نجيح ) رواه الترمذي وصححه .
والتفاؤل يبعث في النفس الرجاء في عطاء الله وتيسيره، فيقوى عزمه، ويتجدد أمله في نجاح مقصوده، ويحمله التفاؤل على صدق الاستعانة بالله، وحسن التوكل عليه، فلا يعدو سماع الكلمة الطيبة أن يكون محركاً وباعثاً للأمل عنده.