الحديث الموضوع هو المختلق المصنوع، أو هو ما نُسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اختلاقا وكذباً مما لم يقله أو يفعله أو يقره، وهو شر أنواع الحديث الضعيف جملة وتفصيلاً، وقد جعله العلماء آخر درجات الحديث الضعيف، وإنما جعلوه من درجاته لأجل التقسيم المعرفي وبحسب ادعاء واضعه، وإلا فهو ليس من أنواع الحديث أصلاً.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه أو التقوّل على لسانه؛ فقال في الحديث الصحيح: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) متفق عليه، ولم يكن هذا الوعيد الشديد بسبب أن أحدًا كذب على النبي في عهده أو حال حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأن العاقل لا يكذب على الأحياء، ولأن الوحي الذي كان ينزل لطالما فضح المنافقين في مناسبات كثيرة، ولكن النبي الكريم حذر من الكذب عليه في المستقبل، أو فيما يستقبل من الزمان، حماية للشريعة ولأحكام الإسلام من العبث والتحريف والتبديل الذي وقع فيه أهل الكتاب - وبخاصة إذا علمنا أن تحريف القرآن المعجز لا سبيل إليه، وقد تكفل الله تعالى بحفظه - ولأن مثل هذا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم سوف تكون له آثار سيئة أخرى.
تاريخه وبيئته
ولم تنشأ حركة "الوضع في الحديث" في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأن من ارتد من العرب ومنع الزكاة فعل ذلك جهارًا نهارًا، ولم يخطر ببال أحد من العرب من رجال القبائل التي منعت الزكاة أن يحتج على هذا المنع بحديث مكذوب يضعه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، أو لم يُفعل ذلك على أقل تقدير؛ بل لقد كثر مدّعو النبوة أو المتنبئون الكذبة المحاربون للإسلام جهارًا نهارًا أو على رؤوس الأشهاد.
وبقي الأمر على هذه الحال طيلة خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد الخطاب رضي الله عنه، لأن جمهور الصحابة الذين يحفظون السنة في صدورهم بقوا مقيمين في المدينة, وفي وسعهم أن ينفوا عن السنة الدخيل والمكذوب، وليس في وسع أحد أن يضيف الحديث إلى أحدهم وهو على قيد الحياة، بالإضافة إلى حرص عمر رضي الله عنه على الإقلال من رواية الحديث، وتحذيره المكثرين منها، وأخذه النهي بالحزم والعزم.
وقد عمل عمر رضي الله عنه على حفظ السنة من تقوّل المنافقين، وأشار على الصحابة والبعوث بحفظ القرآن والإقلال من الحديث، وهو في كل أموره متمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإننا لا نجد أي محاولة للوضع في الحديث في هذا العصر.
وكذلك كانت الحال على عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، على الرغم من الفتوح الواسعة التي تمت في عهده في أذربيجان وفي شرق الدولة الإسلامية؛ وما حملته هذه الفتوح من دخول الأجناس المختلفة في الإسلام في تلك البلاد النائية، وما أتاحه هذا التوسع من فرصة لمن لم يدخل الإسلام في قلبه أن يكذب في الحديث بعيدًا عن المدينة، وعمن بقي على قيد الحياة من حفظة الحديث من الصحابة الذين تفرقوا في الأمصار، وعن رواته من طبقة التابعين.
ولكن الأمر لم يستمر على هذا النحو طيلة عهد عثمان رضي الله عنه فقد شهد أواخر عهده قلاقل واضطرابات انتهت باستشهاده على يد نفر من الرعاع، ثم كان ما كان من أمر الخلاف الذي نشب بين على بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما والذي أخذ شكلاً حربيًّا في موقعة صفين، وما أعقب ذلك من الانقسامات وظهور الشيع والأحزاب.
في هذا المناخ، وعلى يد نفر من أنصار هذه الشيع ومن اندس بينهم من يهود وأعاجم تظاهروا بالإسلام.. بدأ الوضع في الحديث، والكذب على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول باب من أبواب الوضع: (فضائل الأشخاص)، فقد بدأ هؤلاء بوضع الأحاديث الكثيرة في فضائل أئمتهم ورؤساء أحزابهم، قبل أن يتسع نطاق الوضع ليشمل تأييد بعض الفرق والآراء السياسية، أو الانتصار للزندقة وإحياء بعض الموروثات الدينية القديمة، فضلاً عن بعض الأغراض الفاسدة الأخرى.
وكانت العراق أول بيئة نشأ فيها الوضع، كما أشار إلى ذلك أئمة الحديث والتاريخ، فقد قال الإمام الزهري رحمه الله: "يخرج من عندنا شبرًا فيرجع إلينا من العراق ذراعًا"، وسمّى الإمام مالك العراق "دار الضرب"، أي المكان الذي تضرب فيه الأحاديث وتخرج إلى الناس للتعامل، كما تضرب أو تُسكّ النقود وتوضع في سوق التداول.
ذلك هو تاريخ بداية الوضع في الحديث، وتلك هي بيئته، وسنكمل بقية ما يتعلق به في مواضيع لاحقة بإذن الله.