اليد الحانية

29/04/2014| إسلام ويب

"الناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ومن يحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء، وهكذا كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم".

لقد أتى إليه الشاب وقد برحت به الشهوة، وأقضت مضجعه، وشوشت فكره، وأتعبت خاطره فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه رخصة في أن يزني!! وهو والله مطلب عجيب وغريب ومستفز استثار الصحابة عليه، وتعجبوا لطلبه، ولَحَوه ولاموه وزجروه، وقالوا: مه مه.. أي ما هذا الذي تقوله، وما هذا الذي تطلبه؟!!

ولكن الرفيق الرحيم قال لهم دعوه.. ثم قال له ادن، فدنا.. وبدأ يقتلع منه محبة الشهوة بميزان العقل والمروءة، وبالحوار المقنع الذي يدخل شغاف القلب فيقبل طوعا لا كرها، فقال: "أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟" قَالَ: لا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟" قَالَ: لا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟" قَالَ: لا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟" قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟" قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاتِهِمْ".

ثم لم يتوقف عند مجرد قناعة العقل حتى انتقل إلى فضاء الرفق والرحمة فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، ودعا له وَقَالَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ, وَحَصِّنْ فَرْجَهُ". قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إلى شَيْءٍ.
وأصل الحديث رواه الأمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه وصححه الشيخ الألباني.

إنها الرقة والرفق واللين والمحبة التي جعلت قلوب المؤمنين تتعلق بهذا النبي الكريم وتحبه أكثر مما تحب نفسها وأولادها، وتفديه بكل ما تملك من الأموال والأولاد والأنفس.

ابن عباس وأبو محذورة:
لم تكن حال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب حالة فردية، ولكنها كانت أمرا دائما وخلقا ملازما يفهمه من يقرأ قول الله تعالى: {فبما رحمة الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران: )

روى ابن سعد في طبقاته عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِي، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ".
وجاء في رواية البخاري عن ابن عباس قال: [ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره" وقال: اللهم علمه الحكمة].

وأما أبو محذورة فقد روى النسائي عَنْه قَالَ: " لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ خَرَجْتُ عَاشِرَ عَشْرَةٍ مِنْ مَكَّةَ نَطْلُبُهُ، فَسَمِعْتُهُمْ يُؤَذِّنُونَ لِلصَّلاةِ، فَجَعَلْنَا نُؤَذِّنُ نَسْتَهْزِئُ.. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ هَؤُلاءِ تَأْذِينَ إِنْسَانٍ حَسَنِ الصَّوْتِ" فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَأَذَّنَ رَجُلٌ رَجُلٌ، فَكُنْتُ آخِرَهُمْ، فَقَالَ حِينَ أَذَّنْتُ: "تَعَالَ"، فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ،َ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِي، وَبَارَكَ عَلَيَّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَالَ: "اذْهَبْ فَأَذِّنْ عِنْدَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، قُلْتُ: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ ، فَعَلَّمَنِي" .. الحديث.

ليتني كنت معكم
إنها اليد الحانية التي تمتد في رفق ومحبة لتمسح عن العيون دموعها، وعن القلوب همومها وأحزانها، وعن النفوس أوصابها وأوضارها، وتزيل عنها عيوبها.. مع نفس رحيمة رقيقة مشفقة تنطلق بالدعوات المستجابات من رسول لا يرد دعاؤه طلبا لهداية هذه النفوس، وتطهيرا لهذه القلوب، وشفقة عليها من أن تهوي في مهاوي الرذيلة أو تزل في مزالق المعصية، ليس هذا فحسب ولكن لتطهر وتزكو وترتقي في مراقي التقى والعلم والفضل.

لكم تمنيت والله أن أكون هناك فآتيه صلى الله عليه وسلم، وفداه أبي وأمي وأهلي ومالي، فأشكو إليه حالي وضعفي ونقصي وتقصيري وخللي وزللي وسوء عملي وغلبه هوى نفسي؛ لعله أن يمسح بتلك اليد الحانية على صدري، ويدعو لي بدعوة يذهب الله بها كل نقص ويجبر بها كل خلل، وتكون بهذه اللمسة الحانية والدعوة الغالية سعادة الدنيا والآخرة. فيا سعد من مسه كف الرحمة ونالته دعوة الرفيق.

فيا أيها الدعاة: إننا لا نريد منكم أن تكسروا أصنام الناس، ولكننا نريدكم أن تجعلوهم يحطمونها بأيديهم!!

ويا أيها الداعية: كن برعما في غصن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وكن وردة من نسيج ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب، لعل الله أن يفتح لك القلوب كما فتحها للحبيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

www.islamweb.net