المبادرة إلى الخيرات ندب إليها الشرع في أكثر من موضع، ومن ذلك المبادرة بالصلاة في أول وقتها، وهو مندوب في الصلوات الخمس ما عدا صلاة العشاء، فالتأخير في وقتها أفضل، ما لم يخش فوات الجماعة، وقد حصل خلاف بين الفقهاء في صلاة الفجر، هل الأفضل التبكير بها في أول وقتها (التغليس)؟ أم السنة تأخيرها وهو (الإسفار)؟
فالأول قول الجمهور، والثاني قول أبي حنيفة، والخلاف مبني على ظواهر متعارضة، بين جملة من الأحاديث.
أحاديث التغليس بصلاة الفجر:
في البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس، فينصرفن نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس، أو لا يعرف بعضهن بعضا.
وفي البخاري عن جابر قال: والصبح كان النبى -صلى الله عليه وسلم- يصليها بغلس.
وروى الإمام أحمد حديث قيلة بنت مخرمة أنها قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة، وقد أقيمت حين انشق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تتعارف مع ظلمة الليل.
وروى أبو داود وغيره من رواية حرملة العنبري قال: أتيت النبي فصليت معه الغداة، فلما قضى الصلاة نظرت في وجوه القوم ما أكاد أعرفهم.
حديث الإسفار:
الحديث الأول: حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر"، ولأهل العلم توجيهات لهذا الحديث بما يجعله يتفق مع أحاديث التغليس منها:
الاحتمال الأول: يحمل الأمر بالإسفار على التحقق طلوع الفجر؛ لأنه مظنة الاشتباه، فقد يصلي الإنسان ثم يتبين له أن الفجر لم يطلع، وهذا حصل لبعض الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الاحتمال ذكره الشافعي وغيره.
الاحتمال الثاني: أن يحمل الأمر بالإسفار على أن المراد الأمر بتطويل القراءة فيها حتى يخرج من الصلاة مسفرا، فيكون الابتداء بغلس، والانتهاء من الصلاة بالإسفار، ويؤيد هذا كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو كتاب مشهور جاء فيه: "وصلّوا الصبح بغلس أو بسواد وأطيلوا القراءة" رواه البيهقي.
وهذا الوجه الذي ذكره الطحاوي تبعه عليه جمع من الفقهاء والمحدثين، ونصر هذا الوجه ابن القيم رحمه الله، وقد مال إلى هذا من متأخري الأحناف العلامة أبو الحسنات اللكنوي رحمه الله تعالى قال "وبهذا تجتمع أكثرُ الأخبار والآثار".
الاحتمال الثالث: أنَّ الأمر بذلك إذا كان التغليس فيه مشقة على المأمومين؛ وبخاصَّة في الصيف فإنَّ الليل قصير والناس ينامون فأمر بالإسفار حتى يدرك الناس الصلاة، وهذا الجواب ذكره شيخ الإسلام بن تيمية.
الحديث الثاني: ما روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء وصلى الفجر قبل ميقاتها، وقوله "لغير ميقاتها" محمول على تقديمها عن وقتها المعتاد مما يدل على أن تأخيرها كان معتادا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه عجل بها يومئذ قبل وقتها المعتاد، فهل يصبح هذا الحديث معارضا لروايات التغليس، أم أن الحديث لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته الإسفار بصلاة الفجر؟
لشراح الحديث توجيه لحديث ابن مسعود بما يتفق مع أحاديث التبكير بصلاة الفجر، قال الحافظ: والمراد أنه بادر بالصلاة أول ما بزغ الفجر حتى إن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه. وهو بين في رواية أخرى قال "ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول طلع الفجر وقائل يقول لم يطلع"، وليس فيه دليل لمن قال بالإسفار.
والخلاصة: أنَّه صلى الله عليه وسلم كان من هديه في صلاة الفجر التغليس، ولكنه قد أسفر بها للتعليم والتوسعة، وكان لا يخرج منها إلا بإسفار وهذا هو الغالب، وقد يخرج منها أحياناً بغلس؛ ولعلَّ ذلك كان بحسب إطالة القراءة وتوسطها.