أمة النبي صلى الله عليه وسلم وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لها في الآخرة منزلة وفضلا، فقد اختص الله تبارك وتعالى الأمة المحمدية بخصائص كثيرة لم تُعْطهَا غيرها من الأمم، وفي ذلك تكريم لنبيها صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110)، قال ابن كثير: "يُخْبِر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم"، وعن معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
ومما اختُص به نبينا صلى الله عليه وسلم في أمته أنهم أكثر أهل الجنة مقارنة بالمشركين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأبيض) رواه مسلم، وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم) رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنّة؟ قلنا: نعم، قال: والّذي نفس محمّد بيده إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة، وذلك أنّ الجنّة لا يدخلها إلّا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشّرك إلّا كالشّعرة البيضاء في جلد الثّور الأسود، أو كالشّعرة السّوداء في جلد الثّور الأحمر) رواه البخاري. وفي رواية مسلم: (أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال: فكبَّرنا، ثم قال: أما ترضونَ أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قال: فكبَّرنا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وسأخبرُكم عن ذلك، ما المسلمونَ في الكفار إلا كشعرةٍ بيضاءَ في ثورٍ أسود، أو كشعرةٍ سوداء في ثورٍ أبيض)، قال ابن التين: "أطلق الشعرة وليس المراد حقيقة الوحدة، لأنه لا يكون ثور في جلده شعرة واحدة من غير لونه".
فضْلُ الله تعالى على أمتنا عظيم، إذ جعلها نصف أهل الجنة، وفي بعض الروايات في غير الصحيحين ثلثي أهل الجنة، وهي في المقام الأول خصوصية وتكريم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أمته، ففي حديث الشفاعة المشهور: (.. فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسَلْ تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله) رواه البخاري. وفي رواية أخرى يقول الله عز وجل : (يا جبريل! اذهبْ إلى محمدٍ فقلْ: إنَّا سنُرضيكَ في أُمَّتكَ ولا نَسُوءُك) رواه مسلم.
وفي بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته من بعدهم ـ بأنهم نصف أو ثلثي أهل الجنة ـ إظهار لمدى حبه وشفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم بهم، وقد قال الله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)، وهو القائل صلى الله عليه وسلم في حرصه وحبه لأصحابه وأمته: (أصحابي أصحابي) رواه البخاري، (أمتي يا رب، أمتي يا رب) رواه البخاري.
وقد بشر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بصيغة الاستفهام مرتين وثلاثة وذلك لإرادة تقرير البشارة، (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنّة؟ قلنا: نعم)، فلم يُبَشِّرِهم ويخبرهم أنهم نصف أهل الجنة ابتداءً، لأن التدريج أوقع فى النفس وأبلغ فى الإكرام، ولأن الإعطاء مرةً بعد أخرى دليل الاعتناء بالمُعْطَى، ولتتكرر منهم عبادة الشكر ويزداد سرورهم وفرحهم، قال النووي: "أما تكبيرهم فلسرورهم بهذه البشارة العظيمة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ربع أهل الجنة، ثم ثلث أهل الجنة، ثم الشطر، ولم يقل أولاً شطر أهل الجنة فلفائدة حسنة، وفي أن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وفيه فائدة أخرى هي تكريره البشارة مرة بعد أخرى، وفيه أيضا حملهم على تجديد شكر الله تعالى وتكبيره وحمده على كثرة نعمه، والله أعلم. ثم إنه وقع في هذا الحديث: شطر أهل الجنة، وفي الرواية الأخرى: نصف أهل الجنة، وقد ثبت في الحديث الآخر: أن أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأمة منها ثمانون صفاً، فهذا دليل على أنهم يكونون ثلثي أهل الجنة، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً بحديث الشطر، ثم تفضل الله سبحانه بالزيادة فأعلم بحديث الصفوف، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ولهذا نظائر كثيرة في الحديث معروفة".
فائدة:
لا حرج في تكبير المسلم عند سماعه ما يُفْرِحُه خاصةً في أمور الدين، لما ورد في رواية مسلم: (أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال: فكبّرنا)، ففي ذلك دلالة على مشروعية التكبير عند رؤية الشيء المُسْتَحْسَن، أو عند التعجب من أمْرٍ ما، وأنه لا حرج على من يفعل ذلك، قال العيني: "(فكبَّرنا) أي: فعظَّمنا ذلك، أو قلنا: الله أكبر، سروراً بهذه البشارة"، وقد بوب البخاري في صحيحه باباً بقوله: "باب التكبير والتسبيح عند التعجب". وقال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري:" التكبير والتسبيح معناهما تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعماله عند التعجب واستعظام الأمور حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله، وذلك من أفضل الأعمال". وعلق ابن حجر في فتح الباري على كلام ابن بطال بقوله: "وهذا توجيه جيد، كأن البخاري رمز إلى الرد على مَنْ منع من ذلك".
خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم التي أكرمه الله واختصه بها كثيرة، منها: أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل والأنبياء، وأنه سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة, وأنه أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة, وأول من يقرع ويُفتح له باب الجنة, كما أنه صلى الله عليه وسلم أول من يعبر الصراط من الرسل، وقد شرَّفه الله تعالى بالشفاعة لأمته، وأكرمه بالكوثر, وهو النهر العظيم الذي وعده الله به في الجنة.. ومن هذه الخصائص: تكريم الله عز وجل له أن جعل أمته نصف أهل الجنة وثلثيها .. تلك هي بعض خصائصه صلى الله عليه وسلم التي اختصه الله بها دون غيره من الأنبياء، وهي تبين مكانة نبينا صلى الله عليه وسلم بين الرسل، وتبين لنا كذلك مكانة أمته بين الأمم، وتُعطينا صورة حقيقية عن عظيم مكانته عند ربه وكرامته عليه, فصلوات الله وسلامه عليه.