الإسراء والمعراج معجزة كبرى أرى اللهُ عز وجل فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من عظيم آياته، أمَّا الإسراء فيُقصد به الرحلة العجيبة ـ بالقياس إلى مألوف وقوانين البشر ـ من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، وأمَّا المعراج فهو الرحلة السماويَّة من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة قبل الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، وقد جاء حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء، قال الله تعالى :{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الإسراء:1)، وعن المعراج في سورة النجم قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(النجم 18:12).
وقد تعددت روايات الإسراء والمعراج في الأحاديث النبوية الصحيحة، وليس هناك حديث واحد يجمع ما ورد من أحداث خلال هذه الرحلة المباركة، وإنما هناك أحاديث كل منها يُشِير إلى جزء أو جانب، وقد أورد السيوطي: "أن الإسراء ورد مطوَّلاً ومختصراً من حديث أنس وأُبَيِّ بن كعب، وبُرَيْدَة، وجابر بن عبد الله، وحذيفة بن اليمان، وسَمُرة بن جُنْدُب، وسهل بن سعد، وشدَّاد بن أوس، وصُهَيب، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وعبد الله بن أسعد بن زرارة، وعبد الرحمن بن قُرْط، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبي أُمَامَة، وأبي أيُّوب، وأبي حبَّة، وأبي الحمراء، وأبي ذَرٍّ، وأبي سعيد الخدري، وأبي سفيان بن حرب، وأبي ليلى الأنصاري، وأبي هريرة، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وأم هانيء، وأم سلمة .. وقد عدَّ الإمام القسطلاني في المواهب اللدنِّيَّة ستَّة وعشرين صحابيًّا وصحابيَّة رَوَوْا حديث الإسراء والمعراج، لذا فهو حديث متواتر مع نصِّ القرآن عليه في سورتي الإسراء والنجم".
الإسراء والمعراج بالروح والجسد:
الإسراء والمعراج من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي حارت واختلفت وانحرفت فيها بعض العقول، فزعمت أنها كانت مناماً، أو كانت بالروح فقط، ويستدل بعضهم بأثر رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها بخصوص الإسراء والمعراج تقول فيه: "ما فقدتُ جسد رسول الله ولكن أُسْرِيَ بروحه"، وهو أثر ضعيف لم يثبت عنها رضي الله عنها؟!، بل حكم عليه بعض العلماء بأنه موضوع، فعائشة رضي الله عنها يومئذ لم تكن زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت صغيرة، قال ابن عبد البر: "وإنكار عائشة الإسراء بجسده: لا يصح عنها، ولا يثبت قولها"، وقال الشيخ محمد رشيد رضا: "قد تجد حديثين عن عائشة ومعاوية يُفْهِمان أن الإسراء لم يكن بجسده الشريف، وهما حديثان ليسا مما يحتج بمثلهما أهل العلم بالحديث".
وكذلك استدل البعض على أن الإسراء والمعراج كانا مناماً ببعض روايات الأحاديث، كما في رواية شريك: (وهو نائم)، وفي رواية أخرى قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا عند البيت بين النائم واليقظان)، وقد قال القاضي عياض في الرد على ذلك ـ وكذلك النووي وغيره ـ: "وأما قوله فى رواية شريك: (وهو نائم)، وقوله فى الرواية الأخرى: (أنا عند البيت بين النائم واليقظان) فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم، ولا حجة فيه، إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول المَلَك إليه، وليس فى الحديث ما يدل على كونه نائماً فى القصة كلها". وقالابن حجر: (بين النائم واليقظان) وهو محمول على ابتداء الحال".. وقد أجمع أهل العلم سلفاً وخلفاً على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة، وأنهما كانا في اليقظة بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم، ونقل الإجماعَ على ذلك القاضي عياض في (الشفاء)، والسفاريني في (لوامع الأنوار).. وأقوال أهل العلم في أن الإسراء والمعراج كانا في اليقظة بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها:
ـ قال الطبري: "ولا معنى لقول من قال: أسري بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلاً على نبوته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن مُنْكَرَاً عندهم ولا عند أحدٍ من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل، وبعد فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا بأنه أسري بروح عبده، وليس جائزاً لأحد أن يتعدى ما قاله الله إلى غيره".
ـ وقال ابن كثير: "وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ـ عليه السلام ـ على صورته التي خلقه الله عليها مرتين: الأولى عقب فترة الوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم نازل من غار حراء، فرآه على صورته فاقترب منه، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أوحى، وإليه أشار الله بقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى}(النجم 5: 10)، والثانية: ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى، وهي المشار إليها في هذه السورة "النجم" بقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى}(النجم: 14:13)".
ـ وقال الشنقيطي في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}(الإسراء:1): " فاعلم أن هذا الإسراء به صلى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية الكريمة، زعم بعض أهل العلم أنه بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده، زاعماً أنه في المنام لا اليقظة، لأن رؤيا الأنبياء وحي. وزعم بعضهم: أن الإسراء بالجسد، والمعراج بالروح دون الجسد، ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، لأنه قال: {بِعَبْدِهِ} والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، ولأنه قال: {سُبْحَانَ} والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناماً لم يكن له كبير شأن حتى يُتعَجَّب منه".
ـ وقال ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري: "إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة، في اليقظة بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب جمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذْ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل".
ـ وقال ابن القيم: "أُسْرِىَ برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكباً على البُرَاق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا".
ـ وقال القاضي عياض: "والحق من هذا والصحيح - إن شاء الله تعالى - أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها، وعليه تدل الآية، وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يُعْدَل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذْ لو كان مناماً لقال: "بروح عبده" .. ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه فيه، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا يُنْكَر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته".
ـ وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: "ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}(الإسراء :1)، والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلا، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر".
ـ وقال حافظ الحكمي: "ولو كان الإسراء والمعراج بروحه في المنام لم تكن معجزة، ولا كان لتكذيب قريش بها وقولهم: كنا نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس، شهراً ذهاباً وشهراً إياباً، ومحمد يزعم أنه أُسْرِىَ به الليلة وأصبح فينا إلى آخر تكذيبهم واستهزائهم به صلى الله عليه وسلم، لو كان ذلك رؤيا مناماً لم يستبعدوه ولم يكن لردهم عليه معنى، لأن الإنسان قد يرى في منامه ما هو أبعد من بيت المقدس ولا يكذبه أحد استبعاداً لرؤياه، وإنما قصَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرى حقيقة يقظة لا مناماً، فكذبوه واستهزؤوا به استبعاداً لذالك واستعظاماً له، مع نوع مكابرة لقلة علمهم بقدرة الله عز وجل، وأن الله يفعل ما يريد".
لا ريب أن الإسراء والمعراج من آيات الله العظيمة الدالة على عظم منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل، وهي معجزة أكرمه الله واختصه بها من بين الأنبياء والرسل، وكانت يقظة لا مناماً، بالروح والجسد معاً، وما حدث في الإسراء والمعراج من الغيبيات لا يخضع - في الحكم عليه - للعقل، فإن الله سبحانه وتعالى خلق لنا العقل لنتعامل به مع عالَم الشهادة لا عالم الغيب، أما عالم الغيب فنحن نُسَلِّم بكل ما جاءنا به الوحي (القرآن الكريم والسنة الصحيحة)، ولا نخضعه للعقل، ولذلك حينما جاء المشركون إلى أبي بكر رضي الله عنه صبيحة ليلة الإسراء والمعراج ليخبروه أن صاحبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزعم أنه أُسْرِيَ به من مكة إلى بيت المقدس ثم عاد في ذات الليلة، وهم الذين يضربون إليها أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً إيابا، وعُرِجَ به إلى السماء ثم عاد في ذات الليلة، قال أبو بكر رضي الله عنه: "لئن كان قال فقد صدق، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سُمِّيَ أبو بكر بالصديق" رواه البيهقي. فعلى المسلم أن يكون حاله مع كلام وأوامر ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة والصحيحة كحال أبي بكر رضي الله عنه، إيمان ويقين، وتصديق وتسليم، وإن خالف ذلك عقله وهواه.