من المشهور في علوم تفسير القرآن أن التفسير يكون إما بطريق التفسير بالمأثور، وهو أن يعتمد المفسر في تفسيره لكتاب الله على نص من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أثر ثبت عن السلف الصالح رضي الله عنهم، أو أن يعتمد المفسر في تفسيره لكتاب الله على العقل والرأي المنضبط بقواعد الشريعة ومقاصدها. وهذا التقسيم درج عليه أغلب من صنف في علوم التفسير، وخاصة المتأخرين منهم والمعاصرين.
والمتأمل في كتب التفسير والناظر في مناهج المفسرين، يقف على طرق أخرى اعتمدها المفسرون في تفسيرهم لكتاب الله عز وجل، من ذلك ما يسمى التفسير بالعموم، والتفسير باللازم، والتفسير بالمثال، والتفسير بالقياس.
وقد سبق أن تحدثنا في مقالين سابقين عن التفسير باللازم والتفسير بالمثال، ونسعى في هذا المقال إلى تسليط الضوء على التفسير بالعموم، فما هو المراد بالتفسير بالعموم، وما أمثلته الموضحة له هذا هو محور هذا المقال، فنقول:
من المفيد بداية أن نشير إلى أن موضوع العموم والخصوص له ارتباط وثيق بأصول الفقه؛ لذلك قلَّ كتاب من كتب الأصول يخلو منه، وقد نقل السيوطي في "إتقانه" عن "البرهان في أصول الفقه" لإمام الحرمين، وعن "المستصفى" للغزالي، و"الإبهاج في شرح المنهاج" للسبكي.
تعريف اللفظ العام
أما تعريف اللفظ العام فقد عرفه السيوطي بأنه: "لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر". وألفاظ العموم كثيرة، منها: (كل) و (الذي) و(التي) وتثنيتهما، وجمعهما، و(أي) و(ما) و(من) شرطاً، واستفهاماً، وموصولاً، والجمع المضاف نحو: {يوصيكم الله في أولادكم} (النساء:11) والمعرَّف بأل نحو: {قد أفلح المؤمنون} (المؤمنون:1) واسم الجنس المضاف نحو: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} (النور:63) أي: كل أمر الله، والنكرة في سياق النفي والنهي نحو: {فلا تقل لهما أف} (الإسراء:23) {ذلك الكتاب لا ريب فيه} (البقرة:2) وفي سياق الشرط نحو: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} (التوبة:6) وفي سياق الامتنان نحو: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}.
أقسام العموم
ذكر السيوطي أن اللفظ العام على ثلاثة أقسام:
الأول: الباقي على عمومه.
الثاني: العام المراد به الخصوص.
الثالث: العام المخصوص. وقد مثَّل السيوطي لهذه الأقسام الثلاثة للعموم.
ومما يجدر ذكره هنا، أنه لم يرد عن السلف مصطلح العموم وما يقابله من الخصوص، وهذان المصطلحان من تقييدات المتأخرين، بل كانت عباراتهم على عادتهم مؤدية للمعنى المراد دون التحديد بهذه المصطلحات.
مباحث العموم المتعلق بالتفسير
من المباحث المتعلقة بالعموم، ولها ارتباط مباشر بالتفسير المسائل التالية:
المسألة الأولى: الأصل في الأحكام الشرعية المذكورة في القرآن أنها على العموم، ويلحق بها الأخبار.
أما الأحكام الشرعية، فقد نصَّ الطبري على أن السلف كانوا يرون أن حكم الله فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على العموم الظاهر؛ قال في تعليقه على قصة البقرة: "وهذه الأقوال التي ذكرناها من قولهم: إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها، أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على العموم الظاهر، إلا أن يخص بعض ما عمه ظاهر التنزيل كتاب من الله، أو رسول الله، وأن التنزيل أو الرسول إن خص بعض ما عمه ظاهر التنزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر، فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية، التي عمت ذلك الجنس خاصة، وسائر حكم الآية على العموم.
وقد زعم بعض من عظمت جهالته واشتدت حيرته، أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر؛ لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك، كما خصت عصا موسى في معناها، فسألوه أن يُجلِّيها لهم ليعرفوها، ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا لسهل عليه ما استصعب من القول؛ وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشدداً منهم في دينهم، ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم، فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضاً ويتعبدهم بعبادة، ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم، ويتعبدهم به حتى يسألوا بيان ذلك لهم، فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه، ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه، فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض. فنعوذ بالله من الحيرة، ونسأله التوفيق والهداية".
وأما الأخبار، فالظاهر أنها كالأحكام في العموم؛ لذا قعَّد الطبري قاعدة تقول: الخبر على عمومه حتى يأتي ما يخصصه. وهذه القاعدة من أكثر القواعد التي اعتمدها الطبري في ترجيحاته بين الأقوال. ومن أمثلة ترجيحاته المعتمدة على العموم:
قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} (الذاريات:22) ذكر في معنى قوله سبحانه: {وما توعدون} قولين عن السلف:
الأول: الخير والشر.
الثاني: الجنة والنار.
ثم قال: "وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي القول الذي قاله مجاهد؛ لأن الله عمَّ الخبر بقوله: {وما توعدون} عن كل ما وعدنا من خير أو شر، ولم يخصص بذلك بعضاً دون بعض، فهو على عمومه كما عمَّه الله جل ثناؤه".
المسألة الثانية: أن أسباب النزول لا تُخصِّص الألفاظ العامة، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وثمة من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، لكن المعول عليه هو القول الأول.
ومن المفسرين الذين نصَّوا على قاعدة (العبرة بعموم اللفظ) الطبري، فقد قال عند تفسيره لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (النساء:24) "مع أن الآية تنزل في معنى، فَتَعُمُّ ما نزلت به فيه وغيره، فيلزم حكمها جميع ما عمته".
ويدخل في هذا المعنى ما يشمل المراد بالمعنى الذي قد يعبر عنه بعض السلف بالنُّزول، كالوارد في تفسير قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} (الزمر:30-31) فقد ورد أنها في اختصام المؤمنين، والكافرين، والمظلوم، والظالم. وورد عن ابن عمر رضي الله عنه قوله: إنها نزلت علينا هذه الآية، وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه.
قال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: عني بذلك: إنك يا محمد ستموت، وإنكم أيها الناس ستموتون، ثم إن جميعكم أيها الناس تختصمون عند ربكم: مؤمنكم وكافركم، ومحقوكم ومبطلوكم، وظالموكم ومظلوموكم، حتى يؤخذ لكل منكم ممن لصاحبه قبله حق حقه. وإنما قلنا -الكلام للطبري-: هذا القول أولى بالصواب؛ لأن الله عَمَّ بقوله: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} خطاب جميع عباده، فلم يخصص بذلك منهم بعضاً دون بعض، فذلك على عمومه على ما عمَّه الله به.
وقد تنزل الآية في معنى، ثم يكون داخلاً في حكمها كل ما كان في معنى ما نزلت به، ويدخل في هذا ما يُروى من نزول بعض الآيات في عدد من الأشخاص؛ فإنه لا يلزم أن تكون نزلت فيهم، ولا أن تكون نزلت في أحدهم، والنظر من جهة التفسير في هذا الحال إلى صحة انطباق المذكورين على معنى الآية، ومن ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر} (الكوثر:3). فقد ورد أن {الأبتر} العاص بن وائل، وقيل: عقبة بن أبي معيط. وقد يكون أحدهما هو المعنيُّ بنُزول الآية، وقد يكونان معاً، وقد لا يكونان المعنيين قصداً بنُزولها.
وفي جميع هذه الأحوال، فإنَّ هذان الشخصان ممن ينطبق عليهم وصف الشانئ للرسول صلى الله عليه وسلم، فهم ممن أبغضه، فجعله الله منقطعًا عن كل خير؛ ولأجل هذا، فإن الآية تعمُّ كل من كان مبغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن أعدائه الأُوَلِ من قريش والعرب إلى يوم الدين. قال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقل الأذل المنقطع عقبه، فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه".
المسألة الثالثة: أنه يكثر في تفسير السلف للعمومات التمثيل لها، وهذا ما يسمى التفسير بالمثال.
وهذا الأسلوب التفسيري عندهم يُعتبر من أكثر تفسيراتهم، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في أصول التفسير، حيث قال في نوعي اختلاف التنوع: "وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير، تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه؛ كالتمثيلات، هما الغالب في تفسير سلف الأمة، الذي يُظنُّ أنه مختلف. ونمثل لهذا بما رواه الطبري، قال: حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال في {الكوثر}: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: فقلت لسعيد بن جبير: إن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. وقد سبق أن أفردنا مقالاً لهذا الأسلوب من التفسير.
المسألة الرابعة: تعميم اللفظ على عمومه الأعم دون تقييده بسياق الآية. ويظهر أن القياس هو الذي يمثِّل هذه المسألة؛ لأن الخروج باللفظ، أو الجملة عن سياقهما إدخالٌ لصور لم يدل عليها ظاهر اللفظة، أو الجملة في السياق.
ومن الأمثلة على هذه القاعدة ما ورد في تفسير قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (البقرة:3) قال الراغب الأصفهاني: "فالإنفاق من الرزق بالنظر العامي: من المال. وأما بالنظر الخاصي: فقد يكون الإنفاق من جميع المعاون التي آتانا الله عز وجل من النعم الباطنة والظاهرة؛ كالعلم والقوة والجاه والمال. ألا ترى إلى قوله عليه السلام: إن علماً لا يقال به، ككنز لا يُنفق منه. وبهذا النظر عدَّ الشجاعة وبذل الجاه وبذل العلم من الجود...فمتاع الدنيا عرض زائل، ينقصه الإنفاق. وإذا تزاحم عليه قوم ثَلَمَ بعضهم حال بعض، والعلم بالضدِّ، فهو باق دائم، ويزكو على النفقة، ولا يثلم تناول البعض حال الباقين".
وإلى هذا ذهب بعض المحققين، حيث قال: {ومما رزقناهم ينفقون} أي: مما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون. فعلى هذا هو عام في كل ذلك.
وهذا المثال ظاهر جدًّا، فسياق الآية كما هو ظاهر في الإنفاق المالي، بدلالة قرن النفقة بالصلاة، والذي يقرن بها غالباً هو الزكاة، وبدلالة أن مصطلح النفقة في القرآن يغلب على النفقة المالية.
وعلى هذا جاء تفسير السلف مع اختلافهم في نوع النفقة المالية، هل هي النفقة الواجبة؛ أي الزكاة، وما يجب من النفقة على الأهل، أو هي ما دون ذلك من النفقة المستحبة؟ وأقوالهم لم تخرج عن أن المراد بها الإنفاق المالي، وعلى هذا فالصواب أنَّ الآية في الإنفاق المالي قطعاً، لكن ما ذكره الراغب من أنه يدخل فيها جميع أنواع الإنفاق التي يبذلها المسلم من العلم والجاه والقوة وغيرها غير مراد إرادة أولية، وإدخاله إنما هو من باب تعميم اللفظ على عمومه الأعمِّ، وإخراجه من مدلول سياقه المالي إلى غيره، فجعل (الرزق) يشمل جميع ما يعطيه الله العبد من النعم المعنوية والحسية، وتكون النفقة من هذه النعم كل بحسبها.
هذه بعض المسائل المتعلقة بالتفسير بطريق العموم، وبها يُعلم، أن التفسير بالعموم طريق واسع وخصب من طرق التفسير، لا ينبغي للمفسر إهماله أو تجاوزه.
* استفدنا في تحرير مادة هذا المقال من كلام للشيخ مساعد الطيار على موقع ملتقى أهل التفسير.