من مقاصد دراسة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، استخراج الدروس والفوائد من أحداثها ومواقفها، لنستفيد منها في واقع حياتنا، فيستقيم سلوكنا، وتحسن أخلاقنا، وتعلو همتنا في طلب الجنة، ومن هذه المواقف موقفه وحديثه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لما تعجبوا مِن حُلَّة (ثوبان أو ثوب له بطانة) حرير أُهْدِيَت له، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لمَنَادِيلُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ في الجَنَّة خَيْرٌ مِن هذا).
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قال: مَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِن هذا) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه قال: (أُهْدِيَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وكان ينْهى عَنِ الحرير، فَعَجِبَ النَّاسُ منها، فقال: والذي نَفْس مُحَمَّدٍ بيَدِه، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّة أحْسَنُ مِنْ هذا، وقالَ سَعِيدٌ، عن قَتَادَةَ، عن أنسٍ: إنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أهْدَى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري.
وفي رواية: (أنَّ أُكَيْدِرَ دُومةَ أَهْدى إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جُبَّةَ حريرٍ، وذلك قبْل أنْ يَنْهى نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم عنِ الحريرِ، فلَبِسها، فعَجِبَ الناسُ منها، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: والذي نفْسُ محمَّدٍ بيَدِه، لَمَناديلُ سعدٍ في الجَنَّةِ أحسَنُ مِن هذه) رواه أحمد.
قال العيني: "قوله: (أُهْدِيَت) كان الذي أهْدَها أكيدر دومة، كما بينه في حديث أنس في كتاب الهداية في باب قبول الهدية من المشركين". وأُكَيْدِرِ هو: أُكَيْدِرِ بن عبد الملك رجل من كِنْدة كان ملكًا عليها، وكان نصرانيا، ودُومة: هي دومة الجندل، مدينة بقرب تبوك".
هذا الحديث والموقف النبوي مع أصحابه رضوان الله عليهم لما تعجبوا من هدية أكيدر، فيه الكثير من الفوائد والعبر، ومنها:
فضل ومنزلة سعد بن معاذ رضي الله عنه:
ـ قال ابن القيم كما نقل عنه المناوي في "فيض القدير": "كان سعد في الأنصار بمنزلة الصدّيق في المهاجرين، لا تأخذه في اللّه لومة لائم، وخُتِم له بالشهادة، وآثر رضا اللّه ورسوله على رضا قومه وحلفائه، ووافق حُكْمَه (في يهود بني قريظة) حكم اللّه من فوق سبع سماوات، ونعاه جبريل عليه السلام يوم موته، فحُقَّ له أن يهتز العرش له".
ـ قوله صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد فى الجنة خير منها)، قال النووي: "المناديل جمع منديل بكسر الميم في المفرد، وهو هذا الذي يحمل في اليد.. وقال العلماء: هذه إشارة إلى عظيم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها خير من هذه، لأن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل. وفيه إثبات الجنة لسعد". وقال العيني: " وفيه منقبة عظيمة لسعد.. وأما تخصيص المناديل بالذِكْر فلكونها تُمتهن فيكون ما فوقها أعلى منها بطريق الأولى".
وفي شرح سنن ابن ماجه: "وقال القرطبي: هذه إشارة إلى أدنى ثياب سعد، لأن المناديل إنّما هي مُمتهنة مُتخذةٌ لمسح الأيدي بها من الدنس والوسخ، وإذا كان هذا حال المنديل، فما ظنك بالعمامة والحلّة؟ ولا يُظنّ أن طعام الجنّة وشَرابها فيهما ما يُدنّس يدَ المتناول حتّى يُحتاج إلى منديل، فإن هذا ظنّ من لا يعرف الجنّة، ولا طعامها، ولا شرابها، إذ قد نزّه الله الجنّة عن ذلك كلّه، وإنما ذلك إخبار بأن الله أعدّ في الجنّة كلّ ما كان يُحتاج إليه في الدنيا، لكن هي على حالة هي أعلى وأشرف، فأَعدَّ فيها أمشاطًا، ومَجَامرَ، وأُلُوّةً، ومناديل، وأسواقًا، وغير ذلك ممّا تعارفناه في الدنيا، وإن لم نحتج له في الجنّة إتمامًا للنعمة، وإكمالًا للمنّة".
ـ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ من هذا) فيه: الحث والترغيب في السعي والمسارعة إلى الجنة، لأنه إذا كانت مناديل سعد في الجنة أحسن وأجمل وألين من حرير الدنيا، فما بالنا بما أعده الله عز وجل لعباده في الجنة من نعيم لم يَخطُرْ على قَلْبِ بَشَر؟! قال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: أَعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ. فاقرُأُوا إن شِئْتُم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(السجدة:17)) رواه البخاري.
ـ قال ابن حجر في "فتح الباري": "قال ابن بطال النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه، بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة، فيجوز مسه وبيعه والانتفاع بثمنه".
قَبولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الهدية مِن المشرِكين:
من المفاهيم الخاطئة عند البعض أن علاقة المسلم بالكافر هي علاقة عنف وغلظة بإطلاق، وهو خلاف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الكفار، فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم آداباً وضوابط تقوم عليها العلاقة مع الكفار، وهي آداب وضوابط مبنية على البر والعدل وعدم الظلم، كما قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة:8). وقد قبِل النبي صلى الله عليه وسلم الهدايا من أكيدر دومة والمقوقس وملكُ أَيْلَةَ وغيرهم، وثبت ذلك بأحاديث صحيحة.
قال النووي: "قال القاضي: و إنما قبِل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية، كالمقوقس وملوك الشام، فلا معارضة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبلُ زبْد (هدايا) المشركين)، وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب، ومناكحتهم (الزواج من عفيفات أهل الكتاب)، بخلاف المشركين عبدة الأوثان" . وقال: ".. فقبِل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحةٍ يرجوها للمسلمين، وكافأ بعضهم، وردَّ هديةَ من لم يطمعْ في إسلامه ولم يكن في قَبولها مصلحة، لأن الهدية توجب المحبة والمودة".
فالأصل في هَدْيه صلى الله عليه وسلم هو جواز قبول الهدية من الكافر، تأليفاً لقلبه، وترغيباً له في الإسلام، وقد بوَّب البخاري في صحيحه: "باب قبول الهدية من المشركين".
موقف وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لمَّا رأوا هدية أُكَيْدِرَ دُومة، وقوله لهم: (مَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِن هذا) فيه: بيان فَضلِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ رضِي الله عنه، وتَبشيرُه بأنَّه من أهل الجَنَّة. وفيه: الحث والترغيب في السعي والمسارعة إلى الجنة، وفيه: تحريم لبس الحرير على الرجال، وفيه كذلك: قَبولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الهدية مِن المشركين.