الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ركن لا يصح الإسلام بدونه، وهذا أمر مقطوع به، ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام، والنطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، مع الاعتقاد الجازم بمقتضاهما، هو الذي يدخل الإنسان به في مُسَمّى الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}(النور:62).
والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم داخل في الركن الرابع من أركان الإيمان الستة، وشهادة "أشهد أن محمدا رسول الله" هي الشطر الثاني من الركن الأول من أركان الإسلام الخمسة، ويشهد لذلك حديث جبريل المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه، والذي سأل فيه جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا.. الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّه). قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "وأما الإيمان بالرسول فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه، ولهذا كان ركنا الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". وحين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن لدعوة أهلها إلى الإسلام أوصاه ووجهه بقوله: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) رواه مسلم. فلا تغني إحدى الشهادتين عن الأخرى، بل لا بدّ منهما معًا، "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله".
ومن معاني "أشهد أن محمدا رسول الله": أي أقرُّ وأشهد بلساني، وأصدق التصديق الجازم من صميم قلبي، بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسله الله عز وجل إلى الناس كافة، بشيراً ونذيرا، وأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(سبأ:28)، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(الأعراف:158)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}(الأحزاب:45-46)، وقال سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}(الأحزاب:40).
ومن معاني "أشهد أن محمدا رسول الله" أن يُطاع ويُتَّبَع، وأن قوله وأمره ونهيه مُعَظَّم، فلا يُقَدَّم عليه قول أحد كائناً ما كان، لأنه رسول مُبَلِّغ عن الله تعالى، وأنه أفضل الخلق والأنبياء والرسل، ومع كونه أفضل الخلق فهو عبد لا يُعبد، ورسول صادق لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا من النفع أو الضر إلا ما شاء الله. قال ابن تيمية: "الإيمان بالرسول: هو تصديقه، وطاعته، واتباع شريعته". وقال الشيخ ابن عثيمين: "معنى "شهادة أن محمدًا رسول الله": الإقرار باللسان، والاعتقاد الجازم بالقلب بأن محمدا بن عبد الله الهاشمي القرشي عبد الله ورسوله، أرسله إلى جميع الخلق كافة: من الجن والإنس". وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه "الأصول الثلاثة": "معنى شهادة أن محمدًا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعْبَد الله إلا بما شرع".
فوائد:
1 ـ الأحاديث التي فيها شهادة أن لا إله إلا الله دون النص على شهادة أن محمدًا رسول الله، يدخل فيها ضمنًا شهادة أن محمدا رسول الله وجميع أركان الإيمان وإن لم تُذْكَر في هذه الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه مسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا) رواه أحمد. فلا يدخل الإنسان في الإسلام إلا بهاتين الشهادتين معا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله"، فهما متلازمتان، فشهادة "لا إله إلا الله" أي: لا معبود بحق إلا الله، وشهادة "أن محمدا رسول الله" أي: التصديق الجازم من صميم القلب الموافق لقول اللسان بأن محمدًا عبده ورسوله إلى الخلق كافة، ومعنى كلمة "أشهد" في الشهادتين: يدور حول العِلم والاعتقاد، ولها مراتب بعد ذلك، ذكرها ابن القيم في "مدارج السالكين" فقال: "فأول مراتبها: عِلْمٌ، وَمَعْرِفَةٌ، وَاعْتِقَادٌ لِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَثُبُوتِهِ، وَثَانِيهَا: تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ، وَنُطْقُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ به غيره، بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها، وينطق بها أو يكتبها. وثالثها: أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِمَا شَهِدَ به، ويخبره به، ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به".
2 ـ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير الخَلْق أجمعين، وأفضل وخاتم الأنبياء والرسل، وصاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وأول من ينشق عنه القبر، وأول من تفتح له أبواب الجنة، وأول من ينال أعلى منازلَها، وهو صاحب الوسيلة والشفاعة العظمى، الذي غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي باب الجنة يوم القيامة فأسْتفْتِح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول محمد، فيقول: بكَ أُمِرْتُ لا أفتح لأحد قبلك) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ يَومَ القِيامَةِ، وأَوَّلُ مَن يَنْشَقُّ عنْه القَبْرُ، وأَوَّلُ شافِعٍ وأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) رواه مسلم. قال النووي: "قال الْهَرَوِيُّ: السَّيِّد هو الذي يَفوقُ قوْمه في الخَيْر، وقال غيره: هو الذي يُفْزَعُ إِليْه في النَّوَائِب والشدائد، فيقوم بأَمرهم، ويتحمَّل عنْهُمْ مكارههم، ويدْفعُها عنهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (يوم القيامة) مَعَ أَنَّهُ سَيِّدهم في الدُّنْيا والآخرة، فسَبَبُ التَّقْيِيد أَنَّ في يوم القيامة يظْهَر سُؤْدُده لِكُلِّ أَحَدٍ، ولا يَبْقى مُنازِع، ولا مُعَانِد، ونحوه، بخلاف الدُّنْيا فقدْ نازعه ذلك فيها مُلوكُ الْكُفَّار وزُعماء المُشْركين".
متطلبات ومقتضيات شهادة: أن محمدا رسول الله:
متطلبات ومقتضيات شهادة: أن محمدا رسول الله كثيرة، ومنها:
1 ـ تعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}(الفتح:9:8). قال ابن كثير: "قال ابن عباس وغير وَاحِدٍ: يُعَظِّمُوهُ، {وَتُوَقِّرُوهُ} مِنَ التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام"، وقال السعدي: "أي: تعظموه وتُجِّلوه، وتقوموا بحقوقه صلى الله عليه وسلم".
2 ـ محبته صلى الله عليه وسلم أكثرَ من محبة النفس والمال والوالد والوَلَدِ والناس أجمعين. عن أنس رضي الله عنه أن النَّبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والدِه، وولَده، والناس أجمعين) رواه البخاري. وعن عبد الله بن هشام قال: (كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لَأنتَ أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النَّبي صلى اللهُ عليه وسلم: لا (أي لا يكمُلُ إيمانك)، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لَأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال صلى اللهُ عليه وسلم: الآن (كمَل إيمانُك) يا عمر) رواه البخاري.
3 ـ تصديقه صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به عن الأمم السابقة، وما أخبر به عن أمور الغيب في المستقبل، لأن ما جاء وأخبر به وَحْيٌ مِن الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم: 3 ـ 4). قال السعدي :"أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه، {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره، ودل هذا على أن السُنة وحْي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ}(النساء:113)، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى".
4 ـ طاعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، واتباعه والاقتداء به، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(النساء:80)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: (كل أمَّتي يدخلون الجنة إلا مَن أبَى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبَى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَى) رواه البخاري. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}(آل عمران:31ـ32). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجته: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه) رواه مسلم. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7). قال ابن كثير: "أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر". وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(الأحزاب:21)، قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة أصلٌ كبير في التأسِّي برسول الله صلى اللهُ عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".
يجب على كل مسلم، بل على كل إنسان ـ حتى يرث الله الأرض ومَن عليها ـ أن يؤمن ويشهد بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم وأفضل الأنبياء والرسل، وأن الواجب الإيمان به وتصديقه، ومحبته وتوقيره، والاقتداء به واتباعه، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، ومن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وألا يُعْبد الله عز وجل إلا بهَدْيه وشريعته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.