أنبياء الله تعالى ورسله هم أفضل البشر، وأعلاهم درجة ومنزلة، خصّهم الله تعالى بفضائل لا يدركهم فيها أحد، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}(الحج:75)، وقال تعالى عنهم: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}(ص:47). ومع علو شأنهم ورفعة منازلهم، فإنهم لا يعلمون الغيب، ولا اطلاع لهم على شيء منه، فعلم الغيب أمر اختص الله عز وجل به وحده، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}(الأنعام: 59)، وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(النمل: 65). ونبينا صلى الله عليه وسلم مع كونه أفضل الخَلق، إلا أنه كسائر الأنبياء والرسل لا يعلم الغيب، قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف:188). فإذا كان هذا حال الأنبياء والرسل في عدم علمهم بالغيب، فكيف بِمَنْ دونهم مِن البَشر؟!.
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً من الذهاب إلى الكَهَنَة والعرَّافين، وبين لنا أن مجرد الذهاب إليهم من كبائر الذنوب، أما سؤالهم عن أمر وتصديقهم في علمهم بالغيب فكفر بالله، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. والعرَّاف يخبر عن الماضي، والكاهن يخبر عن الماضي والمستقبل، قال ابن الجوزي: "قال أبو سليمان: العرَّاف: الذي يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. والكاهن يتعاطى علم ما يكون في مستقبل الزمان، ويدَّعي معرفة الأسرار". وقال النووي: "وَالْفَرْق بيْن العَرَّاف والكاهِن أَنَّ الكاهن إنما يتعاطى الأخْبار عَنِ الكوَائِنِ في المستقبلِ، وَيَدَّعِي معْرفة الأَسْرار، وَالْعَرَّافُ يَتَعَاطَى معْرفةَ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ ومكان الضَّالَّة ونحْوِهِما". وقال ابن حجر: "والكاهن لفظ يطلق على العرَّاف والذي يضرب بالحصى وَالْمُنَجِّم". وقال ابن تيمية: "العرَّاف اسم للكاهن والمُنَجِّم والرَّمَّال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق".
والأحاديث النبوية الصحيحة في التحذير والنهي عن الذهاب إلى الكهنة والعرَّافين كثيرة، ومنها:
ـ روى مسلم في صحيحه عن بعض أمهات المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَه عن شيءٍ لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِين ليْلة). قال النووي: "قال الخطابي وغيره: العرَّاف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما، وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها، وإنْ كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة، ونظير هذه الصلاة في الأرض المغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب فيها كذا قاله جمهور أصحابنا، قالوا: فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتي بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني، ولابد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العرَّاف إعادة صلوات أربعين ليلة فوجب تأويله والله أعلم". وقال الهروي: "(فَسَأَلَه عن شيءٍ) أي: على وجه التصديق بخلاف من سأله على وجه الاستهزاء أو التكذيب". وقال المناوي: "والفرض أنه سأله معتقدا صدقه، فلو سأله معتقداً كذبه لم يلحقه الوعيد.. (لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِين ليْلة) خصَّ العدد بالأربعين على عادة العرب في ذكر الأربعين والسبعين ونحوهما للتكثير، أو لأنها المدة التي ينتهي إليها تأثير تلك المعصية في قلب فاعلها وجوارحه، وعند انتهائها ينتهي ذلك التأثير، ذكره القرطبي. وخص الليلة لأن من عاداتهم ابتداء الحساب بالليالي. وخص الصلاة لكونها عماد الدين فصومه كذلك كذا قيل".
ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أَتَى عَرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ) رواه أبو داود وصححه الألباني. وفي رواية أخرى صححها الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد برئ مما أنزل على محمد). ومعنى (فصَدَّقه بما يقول): أي اعتَقَد صِدْق قولِه، وعِلمَه للغيبِ مع الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فلا تعارض بين هذا الحديث وبين حديث: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَه عن شيءٍ لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِين ليْلة)، قال الشيخ ابن عثيمين: "قوله: "(كفر بما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ) وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى فيه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(النمل:65)". وقال ابن حجر: "والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة، وتارة بالتكفير، فيُحْمَل على حالين من الآتي، أشار إلى ذلك القرطبي". وقال ابن تيمية: "العراف اسم الكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. والمراد بالكفر هنا هو التشبه بالكافرين في الجاهلية لا أنه كافر حقيقة".
فوائد:
ـ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور غيبية مستقبلية وقعت كما أخبر بها بعد مماته، كان وحْياً من الله عز وجل إليه، ودليلا من دلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه، ومعجزة من معجزاته، وتأكيدا على أنه صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى، كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}{النَّجم4:3)، إذ لا سبيل إلى معرفة الغيب إلا بوحي من الله عزّ وجل، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(الجـن:27:26). قال البغوي: "{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب، لأنه يُستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب".
ـ قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الإيمان معالمه وسننه": "وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك، ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تُثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوبها أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون".
ـ يلتحق بالكاهن والعراف: الرمَّال، والضرب بالحصى، وقراءة الكف، وقراءة الفنجان، وقراءة البروج، وقراءة الخطوط ونحو ذلك مما انتشر في هذا العصر من أنواع الكهانة، وكل هذا من الشرك المنهي عنه، وإن تعددت وتغيرت أسماؤه.
ـ لا يُشْترَط لتحقيق قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَه) أن يأتي ويذهب إليه حقيقة، سواء في بيته أو مجلسه، إذ المقصود النهي عن التوصل إليه أو التواصل معه بأي وسيلة ـ من الوسائل الحديثة ـ لسؤاله، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها.. فإذا حرم الرب تعالى شيئا، وله طرق ووسائل تفضي إليه: فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه".
ـ قال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين": "اعلم أن الكاهن هو الذي يخبر عن المُغَيَّبَات في المستقبل، وإذا أتاه الإنسان فله ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يأتيه يسأله ولا يصدقه، فثبت في صحيح مسلم أن من فعل هذا لا تقبل له صلاة أربعين يوما. الحالة الثانية: أن يأتيه يسأله ويصدقه، فهذا كافر لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أَتَى كاهنًا فصَدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ)، ووجه كفره أن تصديقه إياه يتضمن تكذيب قول الله جل وعلا: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(النمل:65)،لأن الكاهن يخبر عن الغيب في المستقبل، فإذا صدقْتَه فمضمونه أنك تكذب هذه الآية، فيكون ذلك كفرا. الحالة الثالثة: أن يسأل الكاهن ليكذبه، وإنما يسأله اختبارا، فهذا لا بأس به، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن صياد عما أضمر له فقال له: الدخ يعني: الدخان فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اخسأ فلن تعدو قدرك)، فإذا سأله ليفضحه ويكشف كذبه وحاله للناس فإن هذا لا بأس به، بل إن هذا يكون محمودا مطلوبا، لما في ذلك من إبطال الباطل".
الذهاب إلى الكهنة والعرافين من الحرام البَيِّن، وقد حذرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من ذلك تحذيرا شديدا في أحاديث كثيرة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَه عن شيءٍ لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِين ليْلة)، وقوله: (من أَتَى عَرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ). وليس كل من ذهب إلى كاهن أو عرَّاف يكون كافرا ومشركاً شركاً أكبر، بل الذهاب إلى الكاهن أو العراف فيه تفصيل ـ كما قال ابن تيمية والقرطبي وابن حجر وابن عثيمين وغيرهم ـ، فقد يكون شركاً أكبر، وقد يكون معصية، وقد يكون جائزاً ـ على حسب الذاهب ونيته ـ لإبطال باطل هذا العراف وبيان كذبه. فعلى المسلم أن يحْذر ويُحَذِّر من الذهاب إلى الكهنة والعرَّافين وما في معناهما، وأما من وقع منه شيء من ذلك من قبل، فعليه التوبة النصوح لله عز وجل، وكثرة الاستغفار.